قال الحسن البصري: إنَّ اللهَ جعلَ شهرَ رمضانَ مِضماراً لخلْقِه، يَسْتَبِقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فَسَبَقَ قومٌ ففازوا، وتَخلَّف آخرون فخابوا، فالعجبُ مِن اللاعبِ الضَّاحكِ في اليومِ الذي يَفوزُ فيْهِ المُحسِنون ويَخسرُ فيه المُبْطلون(1).
فمن هم الرابحون في شهر رمضان المبارك؟ وما أهم صفاتهم التي يتصفون بها وأعمالهم التي يقومون بها؟
أولاً: حسن الاستعداد:
ويكون ذلك بالتهيئة النفسية والخطط العملية التي يصنعها المسلم لنفسه أو بمعاونة غيره، ويعزم على فعلها، فعلى قدر الاستعداد يكون الإمداد.
وعلى المسلم أن يحذر من دخول رمضان وهو غير مستعد له، فإن هذا يدفعه إلى التخاذل والتكاسل.
يقول ابن القيم(2): حذار من التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك، قال تعالى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (التوبة: 83).
فمن أراد الربح والفوز فليتهيأ للسباق، وليملأ قلبه بالاشتياق، وعقله بالإشراق، وجسده بالانطلاق.
ثانياً: إخلاص النية:
فرمضان شهر العبادة، والعبادة لا تُقْبَل إلا بالإخلاص، حيث قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: 5)، وقال عز وجل: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر: 11)، وقد اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيق المغفرة أن يخلص المسلم نيته لله تعالى، وأن يحتسب عمله لله وحده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»(3)، ففي هذا الحديث دليل على أنَّ الأعمال الصالحة لا تَزْكُو ولا تُتَقبَّل إلا مع الاحتساب وصِدْقِ النيات(4)، والاحتساب هو امتثال أمر الله تعالى وطلب الأجر والثواب منه وحده.
وإن العبد ليدرك بنيته الصالحة ثواب العمل قبل أن يؤديه، فإن أداه زِيد له في الثواب، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ، إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحِدَةً»(5)، ففي الحديث بيان سعة فضل الله وكرمه في تحصيل الثواب بمجرد النية وإخلاصها لله سبحانه وتعالى.
وعلى المسلم أن يحذر من فساد النية، فلا يدرك من صيامه إلا الجوع والعطش، كما لا يدرك من قيامه إلا السهر والتعب.
ثالثاً: الحرص على اغتنام الوقت:
الوقت هو الحياة، وإضاعته تفريط فيها، وخاصة إذا كان الوقت مباركاً، كالوقت في رمضان، فإنه نعمة تستوجب الإفادة منها والشكر عليها، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والفراغُ»(6).
وقال ابن القيم: إذا أراد الله بالعبد خيرًا أعانَه بالوقتِ، وجعَل وقتَه مساعدًا له، وإذا أراد به شرًّا جعَل وقته عليه، وناكَدَه وقتَه، فكلَّما أراد التأهُّبَ للمسير لم يساعدْه الوقت، والأوَّل كلما همَّتْ نفسه بالقعود أقامَه الوقت وساعَده(7).
فعلى المسلم أن يملأ وقته بالطاعات، وخاصة في شهر رمضان المبارك، فيكثر فيه من العبادة والقراءة أكثر من غيره، فعن سلام بن أبي مطيع قال: كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلةٍ(8)، وقال مسبِّح بن سعيد: كان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة(9).
فإذا كانت هذه حال الصالحين في رمضان؛ فإن الواجب علينا أن نتأسى بهم، وأن نسابقهم في طاعة الله، كما يجب أن يحذر المسلم من كل ما يضيع وقته بعيداً عن طاعة الله، أو في أعمال تقل أهمية عن أعمال الخير والجهاد في سبيل الله.
رابعاً: صحبة الصالحين:
إن الصاحب هو المعين، حيث تتأسى النفس بمن حولها، فإذا رأى المسلم أصحابه ينشطون لعمل الصالحات؛ فإن هذا يدفعه إلى مشاركتهم، بل مسابقتهم، وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن رمضان شهر السباق، فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاكم رمضان، شهرُ بركةٍ، يغشاكم اللهُ فيه، فَيُنزِلُ الرحمةَ، ويَحُطُّ الخطايا ويَستجيب فيه الدعاءَ، وينظر اللهُ تعالَى إلى تنافُسِكم فيه، ويُباهي بكم ملائكتَه، فأَرُوا اللهَ من أنفُسِكم خيرًا، فإنَّ الشَّقِيَّ من حُرِمَ فيه رحمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ»(10).
خامساً: إحسان الصيام وحمايته:
بحيث يؤدي المسلم فريضة الصيام كما ينبغي، حيث يصوم عن الطعام والشراب والشهوة، كما يصوم عن أفعال الشر، فلا يسب أحداً، أو يغتابه، أو يظلمه، بل إنه يتحمل الأذى من غيره، ولا يرد السيئة بمثلها، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ»(11).
والناظر في أحوال الصالحين يجد أنهم يهتمون بكيفية العمل لا كميته، قال ابن رجب الحنبلي: كان السلفُ يوصونَ بإتقانِ العملِ وتحسينِهِ دون مجردِ الإكثار منه، فإنّ العملَ القليلَ مع التحسينِ والإتقانِ أفضلُ من الكثيرِ مع عدمِ الإتقانِ(12).
وقال ابن القيم: إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورةُ العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض(13).
فعلى المسلم أن يجعل همه في عبادته أن يصل بها إلى مرتبة الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا يكن همه أن يصل إلى نهاية العمل، فلا يقرأ القرآن وهمه أن يصل إلى نهايته فقط، ولا يصوم وهمه أن يصل إلى المغرب فقط، بل يجتهد في إحسان عبادته ويسعى في إرضاء ربه.
___________________________
(1) لطائف المعارف، لابن رجب الحنبلي، ص 210.
(2) بدائع الفوائد (3/ 180).
(3) متفق عليه، رواه البخاري (2014)، ومسلم (760).
(4) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (4/ 21).
(5) متفق عليه، رواه البخاري (6491)، ومسلم (131).
(6) أخرجه البخاري (6412).
(7) مدارج السالكين (3/ 135).
(8) سير أعلام النبلاء، للذهبي (5/ 276).
(9) المرجع السابق (12/ 439).
(10) الترغيب والترهيب، للمنذري (2/60).
(11) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151).
(12) تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 423).
(13) مدارج السالكين (1/ 340).