حفل القرآن الكريم والسُّنة النبوية بمواقف عديدة؛ آيات كريمة وأحاديث نبوية شريفة توجهنا إلى التربية بالحدث، فما ورد في القرآن الكريم من تعقيبات على الأحداث والغزوات والمواقف يمكن أن يُكوّن موسوعة تربوية شاملة، وموسوعة أخرى في السُّنة النبوية والسيرة الشريفة؛ حيث تجسد فيها هذا المنهج المهم والناجع، وهو منهج التربية بالحدث.
وإننا نعيش الآن حدثاً ضخماً، وهو معركة «طوفان الأقصى»، ولا نشك أن هذه المعركة ستُدوّن في تاريخنا ضمن المعارك الكبرى التي تحوّل عندها التاريخ، مثل «بدر»، و«فتح مكة»، و«حطين»، و«عين جالوت»، و«بلاط الشهداء»، و«ذات الصواري»، و«الزلاقة»، و«العقاب»، و«عمورية»، و«فتح الأندلس»، و«فتح سمرقند»، و«فتح صقلية»، و«القادسية»، و«نهاوند»، و«وادي المخازن»، و«اليرموك».. وغيرها من المعارك والأحداث التي أرخ بها المسلمون أيامهم، وتغيرت عندها الدنيا، وتحول بها التاريخ.
وهذا كله يجعلنا نقف أمامها من جهات كثيرة ومتنوعة، وعلى رأسها الجهة التربوية، وبخاصة مع أولادنا، لا سيما والحدث ساخن، فكيف يكون هذا الحدث بوابة لبناء الشخصية المتكاملة عند أولادنا؟ إن هذا الحدث الضخم الذي لم تمر به أمتنا منذ عقود طويلة ليفيدنا في تربية أولادنا بالحدث، وبناء شخصياتهم بالموقف بأكثر من نوع في التربية، على النحو الآتي:
أولاً: التربية الإيمانية:
إن أول ما تستثمر له معركة «طوفان الأقصى» هو التربية الإيمانية؛ وذلك لسببين:
الأول: أنه أول ما يتربى عليم المسلم، وأول يدعو إليه غيره: فأما أنه أول ما يتربى عليه المسلم فلما رواه عبدالله بن عباس وكان غلاما رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَرْدَفَني رَسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَوْمًا فأَخلَفَ يَدَه وَراءَ ظَهْري، فقالَ: «يا غُلامُ، أَلا أُعَلِّمُك كَلِماتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْك، احْفَظِ اللهَ تَجِدْه أمامَك، وإذا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللهِ، وإذا سَأَلْتَ فاسْألِ اللهَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ، والَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه لو جَهَدَتِ الأُمَّةُ على أن يَضُرُّوك لم تَضُرَّك إلّا بشيءٍ قد كَتَبَه اللهُ عليك»(1)، فهو هنا يعلّم ابن عباس (الغلام) معاني الإيمان ومعالم العقيدة بشكل عملي، وأما أنه أول ما يدعو إليه المسلم غيره فلأن النبيَّ ﷺ بَعَثَ مُعاذًا رَضِيَ اللَّهُ عنْه إلى اليَمَنِ، فَقالَ: «ادْعُهُمْ إلى شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطاعُوا لذلكَ، فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطاعُوا لذلكَ، فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عليهم صَدَقَةً في أمْوالِهِمْ تُؤْخَذُ مِن أغْنِيائِهِمْ وتُرَدُّ على فُقَرائِهِمْ»(2)، فأول الدعوة هنا هي الدعوة إلى التوحيد والإيمان ثم فرائض الإسلام.
الثاني: أن المعنى الأبرز في «طوفان الأقصى» هو المعنى الإيماني؛ حيث تتجلى معاني العقيدة والإيمان أعظم ما يكون التجلي فيما نشاهده ونتتبعه من أحداث ومجريات المعركة، فالعدو مبدؤه ومنتهاه، ومنبعه ومصبه عقدي بامتياز، ومجريات المعركة إيمانية عقدية كذلك، فالحافز على المقاومة هو حماية المقدسات، وتحرير الأرض وحفظ العرض، والإقدام لا الإحجام؛ أملاً فيما عند الله وإيثاراً لرضاه، وهو ما يجعل الأبطال المجاهدين يقبلون على الموت (الشهادة)، كما يحرص العدو المعتدي على الحياة.
هذا البعد هو الذي نراه يتجسد في ردود فعل أهل الشهيد حين يرتقي؛ ثباتاً ويقيناً، وإصراراً واستمراراً، وتحدياً وبقاء، وإيماناً واحتساباً، ومن هنا فإن استثمار الحدث إيمانياً وعقدياً هو أهم ما يمكن أن يرسخه الآباء والأمهات مع الأولاد.
هذه التربية الإيمانية هي أساس كل أنواع التربوية، وضابط لها، وباعث عليها، كما أنها تمثل وقاية عظيمة وعميقة من الأمراض المتنوعة؛ عقدية وفكرية ونفسية، وهي معززة للنشاط والعمل، والعزم والمضي، والنشاط الدائم والعطاء المستمر.
ثانياً: التربية الفكرية:
من أهم أنواع التربية التي تستثمر من هذا الحدث هي التربية الفكرية؛ ذلك أن قراءة التاريخ والتعمق في السنن الإلهية الاجتماعية، وتأمل الواقع انطلاقاً من سنن الله ودروس التاريخ يعمق الأبعاد الفكرية والتربية عليها.
وما يجري في معركة «طوفان الأقصى» حلقة من حلقات متوالية الاحتلال والتحرير، فالاحتلال يبدأ متوحشاً، ثم يبدأ شيئاً فشيئاً يتضاءل، وتستفحل المقاومة، ثم تكون لها الجولة في النهاية وينزاح الاحتلال وتتحرر الأرض، والعاقبة للمتقين.
فيجب على المسلم أن يقرأ تاريخ القضية، والفترات والمراحل التي مرت بها، ما بين احتلال، وفتح وتحرير، ويطالع أخبار الاحتلال في هذه البلاد، ويقرأ عن تصرفاته وأخلاقه فيها، كما يطالع أخلاق الفاتحين وسلوك المحررين، ويقارن أفعال أولئك بسلوك هؤلاء، مما يضاعف يقينه بدينه، ويزيده إيماناً وتسليماً، وما أعظم الفرق بين أخلاق المحتلين وأخلاق الفاتحين المحررين، وفي التاريخ عبرة ومنهاج، وحسبنا الرجوع لوثيقة عمر بن الخطاب حين فتح القدس، والاطلاع على ما فيها من أخلاق الفاتحين والتعامل مع المسلمين وغير المسلمين، وهو ما عرف في التاريخ بـ«العهدة العمرية»؛ حيث جاء فيها: «هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن أخرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم يخلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه ما على أهل إيليا من الجزية، ومن شاء صار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشر»(3).
وهو كتاب وعهد لا يحتاج لتعليق إذا ما قورن بما فعله الصليبيون مثلاً حين دخلوا بيت المقدس!
وما لم تكن هناك تربية فكرية لن يتمكن المسلم من تناول القضية، ولا الحديث عنها، ولا العمل لها؛ فالفكر خطير جداً ومهم جداً وفارق جداً، والتربية عليه في ظل هذا الحدث أمر له ما بعده، وهو فريضة شرعية وضرورة واقعية.
هذه التربية الفكرية التي تُستثمر من الحدث تجعل المسلم أقدر على المواجهة، وأوضح في البيان، وأرسخ في مواجهة الأباطيل والرد على الشبهات، ومن هنا تتجسد أهمية التربية الفكرية.
ثالثاً: التربية الأخلاقية:
من المعلوم أن الأخلاق هي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال: «إنما بُعِثتُ لأتمِّم صالِحَ الأخلاقِ»(4)، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تشير إلى الأخلاق ومكانتها، ومنزلتها، ومثوبتها في الدنيا والآخرة لا تحتاج لمزيد بيان، فهي تمثل مدونة من مدونات الإسلام.
وتتجلى التربية الأخلاقية من هذا الحدث «طوفان الأقصى» في أخلاق الناس بعضها مع بعض، حيث تتجسد أخلاق الإسلام في النجدة والمروءة والإغاثة والتضامن والتلاحم.
كما تتضح في التعامل مع الأسرى، وهو أمر سارت به الركبان، وتسبب في دخول كثير من الناس الإسلام، وهو فتح آخر تجلى في هذه المعركة، كما أحرجت شهادات الأسرى «الإسرائيليين» حكومة المحتل والمجتمع بأسره؛ نظراً لحسن المعاملة التي تلقوها من كتائب المقاومة، رغم إجرام العدو، وقتله للنساء والشيوخ والأطفال، والجرحى والمرضى، وتدمير بنية المجتمع!
كل هذا يجب أن يشرحه الآباء والأمهات للأولاد؛ استثماراً للحدث، وطرقًا على الحديد وهو ساخن؛ ليتشبع الطفل بفخامة الإسلام؛ فيزداد عزة به وثقة فيه، ويقارن بين هذه الفخامة والسمو الخلقي والأخلاق الإجرامية الدنية للعدو المحتل المعتدي.
رابعاً: التربية الجهادية:
جعل الإسلام الجهاد ذروة سنامه؛ فقد روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُه الصلاةُ، وذروةُ سنامِهِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ»(5)، وأناط به عز الأمة، وجعل في تركه الذلة والصغار؛ فقد روى عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(6).
وإن معركة «طوفان الأقصى» جهاد خالص لا شائبة فيه، واضح كل الوضوح، بارز كالصبح لذي عينين: عدو محتل، وكتائب مقاومة، الدماء تسيل والأرواح تزهق، والله يصطفي شهداء، والجو كله جهاد في جهاد، وهذا ما يجب أن يتربى عليه الأولاد؛ حباً للجهاد، وشوقاً له، وتحديثاً للنفس به، فما أحوجنا اليوم قبل أي وقت مضى لنشر ثقافة الجهاد.
والحق أن إشاعة مصطلح الجهاد ومفهومه، ونشر مضامينه وإبراز حقائقه، والقيام بمقتضاه، ليعد من أعظم مقاصد الإسلام، وأهم مقاصد هذه المرحلة، ويكون ذلك بنشر مضامينه الشرعية الشاملة، مثل: الجهاد المالي، والجهاد الإعلامي، والجهاد بالكلمة: المقال والفتوى والمرئيات، وجهاد علماء السوء، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، وجهاد النفس أيضاً بما تمر به من مشاعر سلبية؛ فضلاً عن الجهاد القتالي في مكانه وبضوابطه الشرعية، وغير ذلك من ألوان الجهاد التي تستغرق نشاط الأمة كلها بجميع طبقاتها وفئاتها وهيئاتها المختلفة؛ تحقيقاً لمطلب الشرع في التعلق بمصطلحاته، ولنصرة إخواننا الشاملة، وقضايا الأمة العادلة.
____________________
(1) الأحاديث المختارة للمقدسي: (10/ 22)، وقال: «هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومسلم».
(2) صحيح البخاري (1395)، أخرجه مسلم (19) باختلاف يسير.
(3) الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، محمود شريف بسيوني، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003م.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (8952)، وإسناده صحيح.
(5) أخرجه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (22069)، وإسناده صحيح.
(6) أخرجه أبو داود (3462)، والبزار (5887)، والطبراني في «مسند الشاميين» (2417)، وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (6/ 45): إسناده صحيح.