كثيراً ما نسمع في إعلامنا العربي عن أسرة فنية، أو أسرة رياضية، لكن قلما ما نسمع عن أسرة مثقفة، تشع فكراً وأدباً وثقافة وعلماً ونبوغاً، في وقت نشهد انحساراً وتراجعاً في الإقبال على المعرفة، والنهم في طلب العلم.
ربما نحن بصدد حالة استسهال واستخفاف بالأمر، أو نوع من التجاهل واللامبالاة، مقارنة بحالة اهتمام منقطع النظير بوسائل التواصل ومقاطع الفيديو وألعاب العنف والإباحية، وهي منصات تهدم أكثر ما تبني، وتضر أكثر ما تنفع.
غابت الثقافة عن بيوتنا، وقد وُوري الكتاب جانباً، واختفت الصحيفة الورقية، وطُويت المجلة، واختفت أمهات المراجع والقواميس، وبات تصفح وريقات بسيطة عبئاً على أفراد الأسرة العربية والمسلمة.
هل تعلمون أن الطفل العربي يقرأ 7 دقائق سنوياً، وأن معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي سنوياً هو ربع صفحة فقط، في أمة كان أول ما تنزل به الوحي إليها من كتاب الله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1).
ربما تنتابك الدهشة والصدمة في آن واحد، إذا علمت أن إصدارات الكتب في الدول الأوروبية أعلى بكثير من العالم العربي، الذي يصدر كتابين فقط مقابل كل 100 كتاب في أوروبا، و1650 كتاباً كل عام، في وقت تنشر فيه الولايات المتحدة 85 ألف كتاب سنوياً، وفق تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو).
فارق شاسع في معدلات القراءة بين أمة «اقرأ» والغرب، في الولايات المتحدة، يصل المعدل إلى 11 كتاباً للفرد سنوياً، وفي بريطانيا إلى سبعة كتب، مقابل ربع صفحة فقط للفرد في الوطن العربي، كذلك الفارق مخيف بين الطفل الأمريكي الذي يقرأ 6 دقائق يومياً، والطفل العربي الذي يقرأ 7 دقائق سنوياً.
هل سألت نفسك: كم قرأت من كتب منذ بداية العام، أو لنقل كم كتاباً قرأته العام الماضي، بل كم ورقة تصفحتها، وكم من وقت أمضيته في القراءة، في صنوف المعرفة، في أي تخصص أو مجال؟
لماذا نقف في ذيل قائمة الأمم في القراءة، وقد جعل نبينا الكريم، شرط إطلاق سراح أسرى المشركين في غزة «بدر الكبرى» (2هـ)، تعليم عشرة من المسلمين القراءة، كأنها طوق نجاة من الجهل، تعادل حرية إنسان من الأسر.
نحن في حاجة ماسة إلى إنشاء جيل قارئ، يقود الأمة للخروج من الظلمات إلى النور، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم والمعرفة، وأن تكون القراءة أسلوب حياة، وثقافة مجتمع، ومأدبة يجتمع عليها الصغير والكبير.
إن الأسرة المثقفة ليس ترفاً، أو خيالاً ننشده، بل هي حاجة مجتمعية، وربما ضرورة حياتية، لإنارة الطريق أمام الأجيال الجديدة، ومعرفة الغث من السمين، والنافع من الضار، والحق من الباطل، والخير من الشر.
أدق هنا ناقوس الخطر، من إحجام الأبناء عن القراءة، والتململ منها، والانصراف عن العلم والمعرفة إلى أشياء أخرى، ربما تدس السم في العسل، أو تقدم قشوراً لا تسمن أو تغني من جوع، بل ربما تصنع ما يمكن تسميته بـ«الفوضى الثقافية» التي تثير الفتن، وتهين التراث، وتزين الباطل، وتحيد عن الحق.
إن عقولنا وأرواحنا في حاجة إلى وجبة دسمة من بحور العلم الديني والدنيوي، ننهل منها حتى ترتوي أفئدتنا، وتضاء بصائرنا، وتسمو قلوبنا، فننال الحكمة وما كان منها من قبيل العلم والفهم والخبرة والمعرفة بالدين والتفقه فيه.
لنتجول بأبنائنا، بين جنبات السيرة النبوية، ومحطات التاريخ الإسلامي، وكتب الحديث والفقه، وأطايب الأدب والشعر والثقافة، وعلوم الفلك والطب والهندسة، وأمواج التكنولوجيا والعلم الحديث.
لنجعل في كل بيت مكتبة ولو صغيرة، لنضع قصة أو رواية داخل السيارة، لنقدم الكتاب الإلكتروني في صورة محببة للصغار، لنحوله إلى مادة فيلمية، أو عمل مرئي أو صوتي (بودكاست)، خاصة أن الشباب هم الأكثر إقبالاً على هذا النوع، مع تسجيل 45 مليون حلقة صوتية في العام 2021م، وفق دراسة أمريكية.
يجب أن نفكر خارج الصندوق في أساليب جديدة تحبب الأجيال الشابة في القراءة، عبر صيغ وصور مختلفة، بداية من الكتاب الورقي بصيغة «بي دي إف» الموجودة على مواقع كثيرة، إلى صيغة «إي بوب»، وهي صيغة تتيح التحكم بالكتاب الإلكتروني سواء بتغيير الخط أو تكبيره وتصغيره، ووضع خط تحت الأسطر التي نريدها، وسماعه صوتياً، أو من خلال مقاطع «بودكاست» يتم تداولها عبر وسائل التواصل، مع توفير منصات مختلفة ورخيصة الثمن لمنح الكتاب فرصة الانتشار عالمياً وفي مختلف الأوساط العمرية.
«أسرة مثقفة» ستكون لبنة في استعادة أمجاد الأمة، وخطوة على الطريق نحو دفع الصغار والشباب إلى حب التراث والفكر، وإلى النهل من علوم المعرفة، بشكل يتماشى مع التطورات الهائلة في مجال التكنولوجيا والاتصال، حتى نخلق وعياً مستنيراً وعقلاً مثقفاً، يقود النهضة المنشودة في القرن الـ21.