كان الشيخ محمد الغزالي (1917 – 1996م) يذوب حبًا في المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويَسْبَح في فهم سُنته وتذوقها، على نحو أوعى وأوعب ما يكون بحق الداعية المسلم الفاقِه، صاحب العقل المتقد، والقلب الموصول.
وكان يعتبر أن من أقرب ما كتب إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كتابه السهل الهين الميسور «فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء».
إذ كان يرى أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ليست بالنسبة للمسلم مسلاة شخص فارغ، أو دراسة ناقد محايد، كلا.. إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها.
والذين يعرفون السُّنة على أنها علم جامد بوقائع التاريخ، وسير الأحداث، ولا يعرفونها على أنها حياة للجنان، وعلم نافع يدفع الإنسان إلى إصلاح الزمان والمكان؛ من الخير لهؤلاء العجزة ألا يشغلوا الناس بهذا العلم القاصر، فإن معرفتهم بالسيرة على هذا النحو تساوي الجهل بها.
وحق لمن يعرفونها بهذا الموت أن يكونوا في أكفان الموتى، خيرًا للحياة والأحياء، من أن يشغلوا الناس بما يحرفهم أو يجرفهم عن حقيقة الإيمان وعمل المؤمنين.
ولقد وفق الشيخ الغزالي في كتابه الفاقِه «فقه السيرة»، حين جمع فيه بين أسانيد وآثار السلف، ورؤية وتحليل الخلف، لكن توفيقه الأكبر كان في معالجته لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث نأى بها عن افتئات الحركيين، الذين اختزل كل واحد منهم -مع تقديرنا لما صنعه- تناوله للسيرة الشريفة في نطاق فكرته، وظل حركته، وعمد إلى تأصيل وتفصيل سيرة الحبيب على مدار حركات الكر والفر، والنصر والهزيمة والتكوين والتمكين، الذي تعالجه حركته في مضارب الأرض هنا وهناك.
كما نأى الغزالي الحكيم بكتابه القيم «فقه السيرة» عن جمود الجامدين، وتهويم السائحين، وخيالات الواهمين و«تماحيك المتماحكين»، فأخرج سيرة حية نابضة شاملة مستمكنة وافية، بعد نظر عقلي شديد، وفهم فقهي رشيد، ونظرة فاحصة واعية، وثقافة عريضة متنوعة، ورؤية واسعة ممتدة، وقلب محب موصول، وذكاء مستبصر وقاد.
فكان كما قال عن نفسه: «إنني أكتب السيرة كما يكتب جندي عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، فلست مؤرخًا محايدًا مبتوت الصلة بما يكتب، إنني أكتب وأمام عيني مناظر قائمة من تأخر المسلمين العاطفي والفكري، فلا عجب إذا قصصت وقائع السيرة بأسلوب يومئ من قرب أو من بعد، إلى حاضرنا المؤسف، كلما أوردت قصة جعلتها تحمل في طياتها شحنة من صدق العاطفة، وسلامة الفكر، وجلال العمل».
ثم يقول: «بدأت أكتب هذه الصحائف وأنا في المدينة المنورة في الجوار الطيب، الذي سعدت به حينًا، وأعانني على إتمام دراسات جيدة في السُّنة المطهرة، والسيرة العطرة».
ثم يقول: «ولله المنة على ما أولى من رحمة، ولعله جل شأنه أن يجعلني ممن يحبونه ويحبون رسوله صلى الله عليه وسلم».
ويواصل الغزالي شارحًا منهجه في معالجة السيرة على هذا النحو الطيب فيقول: «سرني أن تخرج هذه الطبعة بعد أن راجعها الأستاذ المحدث العلَّامة الشيخ محمد ناصر الألباني، وقد أثبت فيها كل التعليقات التي ارتآها على ما نقلت في هذه السيرة من آثار نبوية، وقد اعتمدت على المصادر المحترمة، وأظنني بلغت في هذا المجال مبلغًا حسنًا واستجمعت من الأخبار ما تطمئن إليه نفس العالم البصير، ولكن القارئ سيجد في تعقيب الشيخ ناصر الدين ما يبعث على ريبته في هذا الظن!
وهنا أراني مكلفًا بشرح المنهج الذي سرت عليه!
قد يختلف علماء السُّنة في تصحيح حديث أو تضعيفه، بعد النظر الواعي فيما يحف، وما يتعلق به من الأسانيد والقرائن والشواهد.
بينما يرى الشيخ ناصر الدين، بعد تمحيص الأسانيد، أن الحديث ضعيف! وللرجل من رسوخ القدم في خدمة السُّنة ما يعطيه هذا الحق ولغيره كذلك وجهة نظره.
أو قد يكون الحديث ضعيفًا عند جمهور المحدثين، لكني أنظر إلى متن الحديث فأجد معناه متفقاً كل الاتفاق مع آية من كتاب الله تعالى، أو أثر من سُنة صحيحة، فلا أجد حرجًا من روايته، ولا أخشى ضيرًا من كتابته، وأراني في هذا متسقًا مع المنهج العلمي المقرر، إذ هو لم يأت بجديد في ميدان الأحكام أو الفضائل، ولم يزد أن يكون شرحًا لما تقرر من قبل في الأصول المتيقنة.
خذ مثلًا، ضعّفَ الشيخ ناصر الدين، حديث: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ».
ولم يعول على تصحيح الحاكم ولا تحسين الترمذي لهذا الحديث، بيد أنني لم أجد في المطالبة بحب الله ورسوله ما يحملني على التوقف فيه، ولذلك أثبته وأنا مطمئن.
كما أخرت الاستدلال برواية الصحيحين بشأن غزوة بني المصطلق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باغت بني المصطلق وهم غارون!
لأن الرواية على هذا النحو، تومي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرض عليهم دعوة الإسلام، ولا بدا من جانبهم نكوص أو صدود، ولا عرف من أحوالهم ما يوحي بضرورة هذه المباغتة، وإن قتالاً يبدأه المسلمون على هذا النحو، مستنكر في منطق الإسلام، ومستبعد في سيرة الرسول، حتى وإن عززته رواية الشيخين..
وما روي أيضًا عن عبدالله بن عون، قال: كتبت إلى نافع رحمه الله، أسأله عن الدعاء، أي الدعوة قبل القتال، فكتب إلىّ، إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار عليه الصلاة والسلام على بني المصطلق وهم غارون، قال: حدثني به عبدالله بن عون، وكان في ذلك الجيش».
لكن الغزالي الفقيه الحكيم يورد الاستشهاد بالحديث نفسه في سياقه الاستدلالي القويم، على نحو ما روي من الشواهد الصحاح، «لا قتال دون إعذار»، «وأن المؤمن لا يفتك»، وهذا هو المعنى الصريح الواضح لقول الله عز وجل: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال: 58)، ومن قوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ) (الأنبياء: 19).
وحديث الصحيحين السابق الإشارة إليه، إنما يأتي تنزيله على درجته من الصحة العالية، في موضعه من سياق السيرة الحميد، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعذر إليهم ودعاهم وأنذرهم فأبوا رفضوا وعاندوا.
وتثبت شواهد السيرة الصحيحة أن زعيمهم الحارث ابن ضرار، قد سبق بإرسال عين له على المسلمين، فظفروا به فقتلوه، فكان ذلك بمثابة إنذار حرب، فوقعت الخصومة، وتربص كل فريق بالآخر، وغدا يبيت له ويستعد للنيل منه، فباغتهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم غارون كإحدى مراحل الحرب، لا إحدى مراحل الدعوة.. فالحرب خدعة!
ومن ثم، فإن الاستدلال الصحيح برواية الصحيحين قد جاء في موضعه الجامع من سياق السيرة، وتلازمه مع القرآن الكريم تنزيلًا وتأويلًا.
وعلى هذا النحو دارت كل الترجيحات والتنزيلات الخاصة بسيرته صلى الله عليه وسلم، بما يتفق وكتاب الله وسُنة رسوله، مثلما حدث من استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، مثلاً، للحباب بن المنذر في غزوة «بدر»، التي وهن المحدثون سندها، «هذا بالنسبة للضعاف من الأحاديث، أما الصحاح، فإن تفاوت الدلالات في مجال الترجيح أو الرد، باب معلوم من أبواب العلم الواسع، كما يعلم الأستاذ المحدث الشيخ ناصر الألباني -الذي تبين الرسالة المرفقة مدى الاحترام والتقدير المتبادل بينه وبين الشيخ الغزالي- وما من فقيه وإمام إلا ورد بعض ما صح، إيثارًا لما ظهر له أنه أصح، ومعاذ الله أن أشغب على السنة! فهي الأصل الثاني للإسلام، وهي التطبيق العملي لمراد الله من كتابه عز وجل.
وهكذا كانت معارك الشيخ محمد الغزالي الكبرى، في كل القضايا التي انتصر فيها لروح الإسلام، بشأن المرأة بين التقاليد الوافدة والراكدة، والحرية والشورى، والعدالة الاجتماعية، والسياسة والاقتصاد، وحقوق الإنسان، والجانب العاطفي في الإسلام، وإعادة النظر في التاريخ والتراث والسنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.
رضوان الله على الشيخ الحر، الذي دار مع الحق حيث دار، ورضي الله عن نزيل البقيع الذي علمنا كيف نفهم هذا الدين، وكيف ندعو له، وكيف نفكر في مستقبله داخل وخارج أرضه، بقلب نقي، وعقل ذكي، وإدراك واع لما يجدّ للناس من وقائع وأحداث.
وسلام على الشيخ محمد ناصر الألباني يرحمه الله، الذي اجتهد فحظي بأوفى الأجرين، أو بهما معًا، وسلام على الصادقين.