تعيش الأمة اليوم أجواء روحانية فريدة، ومرحلة تاريخية فارقة حيث شهر رمضان المبارك، شهر العبادات والكرم والمواساة والتعاضد والتكافل بين أفراد المجتمع الواحد بعضه بعضاً وكذلك الأمة فيما بينها، وتمر بمرحلة فارقة في حرب «طوفان الأقصى»، فتدفع فلسطين الثمن الباهظ في سبيل تحرير المقدسات لتسقط عن الأمة فرض العين وتضعها أمام واجب آخر؛ واجب الكفالة المادية التي تفتقدها مع هذا الحصار الغاشم عالمياً على قطاع غزة وموت أبنائها جوعاً فضلاً عن الحرب الضروس عليها رغم البطولات التي تسطرها كل يوم.
وبهذه المناسبات والأجواء الطيبة، سوف نتناول سلسلة أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالشهر الكريم وأوقات النوازل التي تقع بالأمة لتقف أمام مسؤولياتها تجاه الأحداث الجسيمة بمروءة وشرف.
ومن بين تلك الأخلاق النبوية الشريفة خلق المواساة، ولقد اتصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأخلاق الرحمة والمواساة والكرم.
والمواساة لغة: مواساة: (اسم)، مصدر وَاسَى، جَاءَ لِمُوَاسَاتِهِ: جَاءَ لِتَعْزِيَتِهِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ حُزْنِهِ وَمُصَابِهِ(1)، وقد أراد الله تعالى للمجتمع المسلم أن يكون مترابطاً متماسكاً قوياً متحاباً، ولذلك فصفة المواساة صفة ملازمة للمؤمنين وأهل المروءة، ومن الصعب كذلك أن تجد بالمجتمع المسلم محتاجاً أكله الجوع، أو يتيماً لا يجد من يوجهه، أو أرملة ضاق بها العيش وأظلمت الحياة في وجهها، أو دولة تحارب عدواً وحدها، فـ«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (رواه البخاري).
والمواساة أنواع كما قال ابن القيم: «الْمُوَاسَاة لِلْمُؤمنِ أَنْوَاع: مواساة بِالْـمالِ، ومواساة بالجاه، ومواساة بِالْبدنِ والخدمة، ومواساة بِالنَّصِيحَةِ والإرشاد، ومواساة بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَار لَهُم، ومواساة بالتوجع لَهُم، وعلى قدر الْإِيمَان تكون هَذِه الْمُوَاسَاة، فَكلّما ضعُف الْإِيمَان ضعُفت الْمُوَاسَاة، وَكلّما قَوِي قَوِيَتْ»(2)، وهناك أسباب تدفع المسلم ليكون في حاجة أخيه المسلم يواسيه بالكلمة الطيبة والمشاركة في همه والمساعدة بماله ونفسه إن اقتضى الأمر ليصير بحق مسلماً متأسياً بخلق سيد المرسلين:
1- حث القرآن على المواساة:
لقد تنزل القرآن لإتمام مكارم الأخلاق والحث على كل فضيلة ومنها المواساة، فيقول الله تعالى آمراً المؤمنين على التعاون على البر والتقوى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، وقال: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77)، وقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) (الإسراء: 26).
ولقد واسى الله سبحانه المؤمنين بعد موقعة «أُحد» وما لاقوه من هزيمة بعد مخالفة الرماة لأمر نبيهم وتركهم موقعهم على الجبل، فيقول تعالى للمؤمنين مواسياً إياهم: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141} أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران).
وفي وصف المؤمنين الأبرار يقول الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) (الإنسان)؛ المواساة بالمال والطعام دون شح ودون رغبة في أجر إلا من الله سبحانه وتعالى، وجعل الله المواساة حقاً واجباً للمبتلى على المؤمن فقال عز وجل: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) (الإسراء: 26).
2- المواساة صفة نبي الرحمة:
وبما أننا مأمورون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله عز وجل: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، فقد حث عليه الصلاة والسلام على التحلي بخلق المواساة بين المسلمين وحض عليه ومدح أهل المواساة وأشاد بهم.
فجاء عن أَبِي مُوسَى الأشعري، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» (متفق عليه).
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مُؤمِنٍ كُربةً من كُرَبِ الدُّنيا نفَّس اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يَسَّر على مُعسِرٍ يسَّر اللهُ عليه في الدُّنيا والآخرةِ، ومن سَتَر مُسلِمًا ستَره اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه» (رواه مسلم).
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ قال: بينما نحن في سَفَرٍ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاء رجلٌ على راحلةٍ له، قال: فجَعَل يَصرِفُ بَصَرَه يمينًا وشمالًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من كان معه فَضلُ ظَهرٍ فلْيَعُدْ به على مَن لا ظَهرَ له، ومن كان له فضلٌ مِن زادٍ فلْيَعُدْ به على مَن لا زاد له»، قال: فذَكَر من أصنافِ المالِ ما ذَكَر حتى رأينا أنَّه لا حَقَّ لأحَدٍ منَّا في فَضلٍ. (رواه مسلم)؛ أي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حق المسلم في مال أخيه كحق المسلم في ماله نفسه لا فرق بينهما.
ولقد واسى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كأحسن ما تكون المواساة الإنسانية والربانية؛ فعاد مريضهم وأوصى بالصبر مبتلاهم، وأجمل ما واسى به صحابياً ما رواه جابر بن عبدالله قال: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُاللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ، بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، قَالَ: بَلَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ على أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)».
3– مواساة الصحابة فيما بينهم:
ومن أكمل المجتمعات الإنسانية خلقاً وكرامة ومحبة وتودداً هو المجتمع المسلم في فجر الدعوة، حيث يمثل النسق الإسلامي المتكامل لمن يريد أن يبني مجتمعاً إسلامياً أو يضع تصوراً له.
وإن من أعظم صور المحبة والتعاضد مواساة أهل الأنصار للمهاجرين حين استقبلوهم بديارهم؛ فاقتسموا معهم أموالهم وديارهم وأموالهم حتى كادوا يتوارثون، فعن أنَسِ بنِ مالك قال: لمَّا قدِم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ أتاه المُهاجِرونَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما رأينا قومًا أبذَلَ مِن كثيرٍ ولا أحسَنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزَلْنا بَينَ أظهُرِهم، لقد كفَوْنا المُؤنةَ، وأشرَكونا في المَهنَأِ حتَّى خِفْنا أن يذهَبوا بالأجرِ كلِّه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا، ما دعَوتُم اللهَ لهم، وأثنَيتُم بالأجرِ عليهم» (أخرجه أبو داود).
ومن صورها بين الصحابة، المواساة بين الحاكم والمحكوم حين تشتد المحن بالبلاد وينتشر الفقر ولا يجد الناس أقواتهم، فعن ابنِ شهابٍ أنَّ سالِمًا أخبره أنَّ عبدَاللهِ بنَ عُمَرَ أخبره: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال عامَ الرَّمادةِ يدعو فقال: اللَّهُمَّ اجعَلْ رزقَهم على رؤوسِ الجبالِ، فاستجاب اللهُ له وللمُسلِمين، فقال حين نَزَل به الغيثُ: الحَمدُ للهِ، فواللهِ لو أنَّ اللهَ لم يُفرِجْها ما تركتُ بأهلِ بيتٍ من المُسلِمين لهم سَعةٌ إلَّا أدخَلْتُ معهم أعدادَهم من الفقراءِ، فلم يكُنِ اثنانِ يَهلِكان من الطَّعامِ على ما يُقيمُ واحِدًا. (أخرجه البخاري).
وقد كان أميرُ المُؤمِنين عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه لا يُشبِعُ بَطنَه عامَ الرَّمادةِ حتى ذهب الجَدبُ، وأتى الخِصبُ.
قال الشَّافعيُّ: بلغَني أنَّ رجلًا من العَرَبِ قال لعُمَرَ حينَ ترحَّل الأحياءُ عن المدينةِ: لقد انجَلَت عنك وإنَّك لابنِ حُرَّةٍ؛ أي: واسيتَ النَّاسَ، وأنصَفْتَهم، وأحسَنْتَ إليهم(3).
وهناك الكثير من المواقف العظيمة الفردية والمجتمعية من صور المواساة في بلاد المسلمين بالمال والنفس وكذلك البكاء، ولعل أرقها ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تروي عن نفسها في حادثة الإفك «وبَكَيْتُ يَومِي لا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ، ولَا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، فأصْبَحَ عِندِي أبَوَايَ، وقدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ ويَوْمًا حتَّى أظُنُّ أنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، قَالَتْ: فَبيْنَا هُما جَالِسَانِ عِندِي وأَنَا أبْكِي، إذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ، فأذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي» (رواه البخاري).
4- مواساة أهل غزة واجب الساعة:
ويمر اليوم أهل غزة بمحنة عظيمة بين ما يفوق الملياري مسلم بينما العالم يحاصرهم حصاراً ظالماً يمنع عنهم الطعام والشراب والتداوي، والعدو ينال منهم في كل ساعة على مرأى ومسمع من العالم يقتل أطفالهم غدراً وجوعاً، وتموت نساؤهم تحت الأبنية المقصوفة ورجالهم قهراً وغيلة.
فواجب الأمة اليوم المواساة بالمال والطعام كفرض عين على أقرب الجيران، ثم الذين يلونهم، وإلا فتلك الدماء في رقبة الجميع، يجب أن يخرج المسلمون من دائرة القومية المقيتة ويدخلوا في أخلاق الإسلام التي تفرض عليهم أن يحملوا إخوانهم تنفيذاً لأحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم التي استعرضناها في هذا المقال.
إن الاكتفاء بالدعاء والمشاهدة والمتابعة دون تحويل تلك المشاعر لفعل ملموس يجبر الأنظمة على فتح المعابر وفرض إرادة دولية لنقل المساعدات التي تكفي أهل غزة جميعاً دون مذلة أو طلب لهو تقصير في واجب ديني وإنساني وأخلاقي سوف يحاسب التاريخ عليه الأمة ولن يغفره الله يوماً حتى يقتص لتلك الدماء.
لقد كفت غزة الأمة في فرضية الجهاد، فلا أقل من أن تكفيها الأمة الحاجات الأساسية لتستمر في تلك المهمة العظيمة دون استجداء أو نداءات تذهب في معظمها أدراج الرياح، وعلى المسلم الفرد أن يستقطع من دخله وقوته لمساعدة إخوانه، وعلى الأمة أن تجتهد لإيجاد حل لتلك القضية التي استنزفت أطهر الدماء خاصة في هذا شهر العطاء.
__________________________
(1) معجم المعاني الجامع.
(2) الفوائد (1/ 171).
(3) البداية والنهاية، لابن كثير (1/ 501).