(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، لقد تعهد الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم بعدما عهد إلى البشرية من قبل بحفظ رسالاتها فنسيت وبدَّلت، وقيض لكتابه رجالاً يحملونه في صدورهم ويتناقلونه من جيل إلى جيل دون تبديل أو تحريف ليصل إلى يوم الدين كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، رجالاً من الصحابة ثم من التابعين وتابعيهم، ومن هؤلاء القراء الكبار عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد ذكره الإمام الذهبي(1) كأول من عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن كاملاً، وأحد من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وثالث الخلفاء الراشدين.
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، يلتقي مع النبي صلى الله على وسلم في عبد مناف(2)، لقب بـ«ذي النورين» لزواجه من ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة بعد الأخرى، يقول حسن البصري عنه: لقب بـ«ذي النورين» لأننا لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبي غيره(3).
وحياة عثمان بن عفان كانت زاخرة بالأحداث العظيمة خاصة بعد إسلامه وحتى بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة والإفطار في صحبته بالجنة، وقد تربى جيل الصحابة الأول على القرآن الكريم حتى شكل نفوسهم وصهرها في بوتقته وتعلقوا به وعملوا بمنهاجه.
1- إسلامه:
كان عثمان تاجراً كثير الترحال يحسن معرفة الرجال وحكيماً في أموره، فحين سمع برسالة النبي صلى الله عليه وسلم اهتم للأمر وأخذ يفكر حتى لقي أبا بكر الصديق فسأله عن أمر صاحبه، فقال الصدِّيق رضي الله عنه: ويحك يا عثمان! إنك لرجل حازم لا يخفى عليك الحقّ من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا؟ أليست من أحجار صمّ لا تسمع ولا تُبصر؟ قال عثمان: بلى، فعرض عليه أبو بكر أن يأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع منه، فوافق عثمان.
وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ ومعه علي بن أبي طالب، فدعوه إلى الإسلام والجنة، فلمّا سمع عثمان ذلك دخل في الإسلام(4)، ليكون بذلك من صفوة السابقين لدين الله ثم يتزوج رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، النور الأول في حياة عثمان، وحن ماتت تزوج من أختها أم كلثوم؛ ليصبح «ذا النورين».
2- أول من هاجر من المسلمين:
حين اشتد الأمر على المسلمين من تعذيب وملاحقة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة حيث بها ملك عادل لا يظلم عنده أحد، ويذكر التاريخ أن أول من امتثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للحبشة هو عثمان بن عفان وزوجته رقية فراراً بدينهما.
وكان جملة المهاجرين 12 رجلاً و4 نسوة، ذكر البيهقي عن قتادة قال: أول من هاجر إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال قتادة: سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة؛ يعني أنس بن مالك يقول: خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد، رأيت ختنك ومعه امرأته، قال: «على أي حال رأيتهما؟» قالت: رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط»(5).
3- ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم:
أوقف عثمان رضي الله عنه حياته لمرضاة الله تعالى والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، فيروي البخاري عن عثمان قوله: «إن الله عز وجل بعث محمداً بالحق، فكنتُ ممن استجاب لله ولرسوله، وآمن بما بُعِثَ به محمدٌ، ثم هاجرت الهجرتين وكنت صهْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعتُ رسول الله فوالله ما عصيتُه ولا غَشَشْتُهُ حتى توفّاهُ الله عز وجل» (أخرجه لبخاري).
فوض آخرين في إدارة تجارته الواسعة ليتفرغ هو لمصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم لتعلم القرآن، وأقوف ثروته الكبيرة لخدمة المسلمين في السلم والحرب، تلقى القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة وأتم حفظه كاملاً، ثم صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وترحاله وغزواته، فقد جاء في «المستدرك» للحاكم عن أبي هريرة قال: دخلت على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان بن عفان، وفي يدها مشط، فقالت: خرج من عندي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آنفاً رجلت رأسه، فقال: «كيف تجدين أبا عبدالله؟ قلت: كخير الرجال، قال: «أكرميه، فإنه من أشبه أصحابي بي خلقاً».
4- جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم:
وبالرغم من شجاعة عثمان وقوته وبأسه الشديد في الحروب، فإنه لم يكن من مشاهيرها كخالد بن الوليد، فقد كانت تغلبه صفات الحياء الشديد وسكونه، ولم يتخلف عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم إلا حين يستخلفه عليه الصلاة والسلام، وقد استخلفه في «بدر» على زوجته رقية وقد كانت مريضة مرض الموت وتوفاها الله حين أتى البشير إلى المدينة بالنصر المبين في «بدر الكبرى»(6)، وقدد جعل له النبي صلى الله عليه وسلم سهما في «بدر» كمن حضرها.
وفي «الحديبية» و«بيعة الرضوان» كان لعثمان موقف يذكره التاريخ، ففي السنة السادسة للهجرة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز لأداء العمرة، وكان معه ما بين 1400 إلى 1500 من الصحابة (البخاري ومسلم)، فغضبت قريش وقررت منع المسلمين من أداء مناسك العمرة، وهنا عرض عثمان بن عفان أن يذهب لقريش أولاً ليبلغهم بنية الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه بالعمرة فقط دون التعرض لقريش.
وبالفعل، ذهب عثمان فراودته قريش ليطوف بالبيت لكنه أبى أن يفعل قبل رسوله الكريم، فاحتبسته قريش حتى شاع خبر مقتله، ولما بلغت الشائعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نبرح حتى نناجز القوم»، ودعا أصحابه عليه الصلاة والسلام للبيعة فبايعوه، ووضع يده الأخرى قائلاً: «هذه عن عثمان»، وتنزلت الآيات في هذا البيعة فيقول رب العزة: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 10)(7).
5- إنفاقه وبذله في سبيل الله:
بالرغم من المميزات الكثيرة التي التصقت بشخصية ذي النورين، فإن صفة الإنفاق الكبير للدولة المسلمة الوليدة كانت أكثر صفاته تميزاً، فقد أوقف تجارته بدخلها المتزايد للنفقة في كل نازلة، ومن أمثلة الإنفاق عند عثمان رضي الله عنه: شراه بئر رومة وتركها لعموم المسلمين، وقام بتوسعة المسجد النبوي حين ضاق بالمسلمين فاشترى الأراضي المجاورة له ووهبها للمسجد خالصة، وقد ذكرت تلك المواقف في الأحاديث الصحيحة.
ولقد تبارى الصحابة في تجهيز جيش العسرة، وأنفق كل منهم في حدود استطاعتهم، وأما عثمان فقد كان حالة وحده، فعن عبدالرحمن بن خباب، قال: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حَضَّ على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حَضَّ على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول: «مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ، مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ» (رواه الترمذي).
6- جمع القرآن الكريم:
ومن أعظم أعمال عثمان رضي الله عنه توحيد المسلمين على مصحف واحد أقره عليه الصحابة، وقد كان المصحف مجموعاً بالفعل في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويروي أنس بن مالك سبب قرار أمير المؤمنين عثمان بجمع الناس على مصحف واحد فيقول: إنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي الله عنه وكان يُغازي أهل الشَّام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنَّصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزُّبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرَّحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرَّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن؛ فاكتبوه بلسان قريش، فإنَّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتَّى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف؛ ردَّ عثمان رضي الله عنه الصُّحف إلى حفصة، فأرسل إلى كُلِّ أفقٍ بمصحفٍ ممَّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ، أو مصحف أن يُحرق(8).
7- أحاديث نبوية في فضائل عثمان:
في المصادر المعتبرة توجد أحاديث متعددة تعبر عن فضل عثمان ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لن نستطيع أن نحصيها، وسوف نكتفي بذكر بعضها فقط، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان: «ألَا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة» (رواه مسلم، وأحمد، وابن حبان).
وعن أبي هريرة قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر ابنته الثانية التي كانت عند عثمان -يعني السيدة أم كلثوم- فقال: «لو كن عشرًا لزوجتهن عثمان، وما زوجته إلا بوحي من السماء» (رواه الطبراني، وابن عساكر، وهو يرتقي إلى الحسن بطرقه وشواهده، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد).
وعن أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال: «اللهم إني قد رضيتُ عن عثمان، فارضَ عنه، اللهم إني قد رضيت عن عثمان، فارضَ عنه، اللهم إني قد رضيت عن عثمان، فارضَ عنه» (رواه ابن عساكر).
تلك سيرة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه باختصار كبير، ولمن يريد الاستزادة ففي المراجع استفادة في الشخصية القرآنية الأولى من الصحابة.
______________________________
(1) معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، ص23.
(2) عثمان بن عفان لعبدالستار الشيخ، ص21.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق، بتصرف.
(5) المرجع السابق، ص49، بتصرف
(6) المرجع السابق، بتصرف.
(7) عثمان بن عفان، للصلابي.
(8) المرجع السابق، بتصرف.