منذ دخول موجات الاحتلال الغربي (الاستعمار) في القرن التاسع عشر الميلادي، ثم ما تبعه من سياسات توسعية أتت على حساب معظم بلدان العالم، جاء دور العالم الإسلامي الذي كان لا يزال تحت حكم الخلافة العثمانية ليتم التوسع على حسابه.
ومن المثير للتأمل أن الخلافة الإسلامية لم تلبث أن تسقط منذ بدء المطامع التوسعة الغربية تلك، فقد جاءت تلك الدول الأوروبية لتحل محل الحكم الإسلامي الذي استقر منذ قرون في هذه البقعة من العالم، وهذا الإحلال كان يستهدف إلغاء الحكم القائم من الوجود، في ثنائية بدت منذ ميلادها صفرية؛ إما الغرب أو الحكم الإسلامي؛ وهو ما تولَّد عنه السؤال الذي لا نزال نبحث عن إجابته: هل يمكن التوفيق بين الخلافة الإسلامية والشكل الحديث للدولة ممثلاً في صورتها القومية الحديثة؟!
العالم الإسلامي شهد محاولات عبثية لتشكيل نموذج مشوَّه للدولة الغربية بمسحة إسلامية
إن الدولة هي ذلك المجال المادي والمعنوي الذي يعكس ثقافة المجتمع وهويته، ومنذ ظهور الاحتلال الغربي والمحاولات لفرض الخلفية الحضارية التي جاء بها المحتل على الدول الإسلامية؛ سواء ثقافياً عبر البعثات العلمية وفرض اللغة الأجنبية أو تقويض دور الدين الإسلامي، أو سياسياً عبر إدخال نموذج جديد من الإدارة والحكم لم يعهد به أبناء العالم الإسلامي وفرضه بالقوة الغاشمة، وهو ما تولد عنه عدة معضلات لا نزال نعاني الانزلاق إليها والاحتباس داخلها دون مخرج حتى يومنا هذا، فرضتها مجموعة من الأسباب التي لا تزال قائمة وتحول دون حسم القضايا الإشكالية التي فرضتها، ومنها:
1- أن النظام الحضاري الغربي قد فرض نفسه بالقوة على العالم الإسلامي، ولا يزال حتى يومنا هذا يفرض نفسه بالقوة القاهرة على العالم الإسلامي، وهو ما يحول دون رغبة حقيقية في دراسة ذلك النموذج بشكل هادئ متوازن بعيداً عن الرفض المطلق الناتج عن الكراهية التي تفرضها القوة الغاشمة.
2- أن النماذج الحضارية الغربية الكبرى ممثلة في شكل الحكم وأسلوب تنظيم العلاقة بين الدين والدولة وغيرها إنما نبعت من تطور سياسي وثقافي وتاريخي غربي بحت لم يمر بها العالم الإسلامي، ومحاولة فرضها بالقوة تشوه السيرورة التاريخية العربية والإسلامية، وتدفع العالم الإسلامي للبحث عن معضلات لم يعرفها، وترهقه أكاديمياً وفكرياً في نقاشات لا تقدم حلولاً لمشكلاته الحقيقية؛ وهو ما يعطل التطور الحضاري الإسلامي.
علمنة الخلافة أم أسلمة الدولة الغربية الحديثة؟
لقد نتج عن فرض النموذج الغربي الحديث للدولة على العالم الإسلامي فيما بعد سقوط الخلافة أن شهد العالم الإسلامي محاولات عبثية لتشكيل نموذج مشوَّه للدولة الغربية بمسحة إسلامية، ومن ناحية ثانية ظهرت الحركات الإسلامية التي لم تلبث أن نادت باستعادة الدولة الإسلامية ممثلة في الخلافة الضائعة، وهما الأمران اللذان سارا جنباً إلى جنب في عالمنا العربي والإسلامي منذ مرحلتي الاحتلال وما بعد الاستقلال.
وتشي التجارب العربية المتنوعة بما آلت إليه الدول العربية فيما بعد الاستقلال وبخاصة الكبرى منها من فشل كبير على سائر الأصعدة، سواء من جانب الأنظمة السياسية التي تبنت العلمنة مع التمسك ببعض الأسلمة الشكلية، أو على صعيد الحركات الإسلامية التي حاولت استعادة الخلافة داخل وعاء الدولة العلمانية الغربية التي كانت قد استقرت وثبتت أركانها في كثير من الدول.
الدولة القومية التي قامت على عداء الدين لم تكن الشكل الأمثل للحكم السياسي بالعالم الإسلامي
ويمكن إرجاع ذلك الفشل على صعيد الأنظمة السياسية إلى ما سعت إليه تلك الأنظمة التي اتسمت بالاستبداد والطغيان من تفكيك سائر القوى المعارضة لسلطتها التي أصبحت فيما بعد عصر الصحوة الإسلامية في السبعينيات بالأساس حركات إسلامية، وفي إطار ذلك السعي لتقويض الحركات الإسلامية تم تعزيز آليات العلمنة بقوة في الدول العربية الإسلامية الكبرى لمجابهة نفوذ الحركات الإسلامية، وذلك عبر عدد من الأساليب تمثلت في احتكار الدولة للدين والسيطرة على المؤسسات الدينية وإخضاعها للسلطة السياسية، وحظر الأحزاب الدينية، وتبرير كل تحرك ضد الرموز والجماعات الإسلامية باعتباره إرساءً للمواطنة وحقوق الإنسان!
أما على صعيد الحركات الإسلامية، فقد تماهت بشكل كبير مع الدولة القومية الحديثة، عبر استخدام آلياتها والاندماج في تشكيلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى باتت العلمنة العامل المستقل في معادلة العلاقة بين الإسلام والدولة القومية الحديثة، فتوزعت الحركات الإسلامية فيما بين الحدود القومية منفصلة عن بعضها بعضاً، وملتزمة بالشكل القومي الحديث، وانضوت تحت إطار القوانين والتشريعات السياسية القائمة، وأصبحت جزءاً من العمليات الانتخابية والسياسية القائمة، وبمرور الوقت حدث ما سماه بعض الأكاديميين علمنة المشروعات الإسلامية لمصلحة سيادة الدولة القومية الحديثة.
دين وسياسة
كانت نتيجة تبني الغرب لفكرة العلمانية من ناحية وفرضها بالقوة على العالم الإسلامي، ثم وراثة الأنظمة العربية ما بعد الاستقلال لسلاح العلمانية للقضاء على المعارضة الإسلامية والتنكيل المستمر الذي تعرض له رموز العمل السياسي الإسلامي؛ سبباً رئيساً في تطرف قوى لاستخدام الدين كأداة وسلاح في ساحة الصراع بين الأنظمة والمعارضة، فأصبحت الخلافة بمثابة المعارضة المهدور حقها، وباتت العلمانية هي الاستبداد، وتشكلت ثنائية جديدة نتجت عن محاولات غربية لفرض النموذج الحضاري الغربي في غير موضعه، مما شوَّه المسيرة الحضارية الإسلامية التي لم يكن الدين فيها في صراع مع الدولة، ولم يكن أداة في الصراع السياسي، بل كان خلفية حضارية وثقافية ينتمي إليها الجميع حتى غير المسلمين، ولم تكن محل نزاع أو تساؤل أو مراجعة.
الحركات الإسلامية تماهت مع الدولة القومية عبر استخدام آلياتها والاندماج في تشكيلاتها السياسية
ولذلك يمكن القول: إن الدولة القومية الحديثة التي قامت ابتداءً على عداء للدين لم تكن الشكل الأمثل للحكم السياسي في العالم الإسلامي، وإن فرض ثنائية الدين في مقابل الدولة على العالم الإسلامي قد شوَّه الدولة المسلمة فيما بعد الاستقلال، وأجج الاستغراق الفكري والثقافي في مشكلات غير حقيقية وغير منطقية لم يتمكن المسلمون من أن يجدوا لها حلاً؛ لأن التساؤل من الأساس كان غير ممكن وغير مطروح.
ودفعت تلك الثنائية إلى إفساد الدين والدولة معاً في العالم الإسلامي، وأحالت الدين إلى أداة للنزاع فيما بين السلطة السياسية والمعارضة، أو ربما بين السلطة السياسية والمجتمع بأسره، بل أصبح الدين أداة للنزاع الحضاري فيما بين المسلمين والغرب، بينما لم يكن من الضروري أن يقع الصراع بين المسلمين والغرب إذا لم يفرض الغرب علمانيته بالقوة الغاشمة ضد المسلمين ويسلط على رقابهم كراهية الدين.
إن الحل الأمثل هو العودة إلى تحييد الدين من الساحة السياسية ليس باعتباره أزمة يتم التخلص منها، وإنما لأن الدين الإسلامي هوية حضارية ومُسلَّمة بديهية موجودة في نفوس وعقول أبناء العالم الإسلامي لا تحتاج إلى فرض نفسها بالقوة، ولا يجدر محاربتها وتشديد الحصار عليها من جانب السلطة السياسية، ومن ثم البدء في التساؤل عن أهم المشكلات التي يعانيها العرب والمسلمون في واقعهم كالاستبداد والاحتلال والتخلف الحضاري والفقر وتراجع التعليم والثقافة، وهي المشكلات الحقيقية التي يجب الشروع في تقديم حلول لها والخروج من مأزق الدين والدولة الذي فرضه عليها الآخر لإشغالنا عن قضايانا واحتياجاتنا الحقيقية.