قراءة في كتاب «العلاقات الدولية في الإسلام» للإمام محمد أبو زهرة:
في خضم الحرب الغاشمة على قطاع غزة والصراع الدائر بين الصهاينة والمسلمين، تابع العالم جملة من الأخلاق الفريدة في تعامل «حماس» والمقاومة مع الأسرى من الجانب الآخر بالرغم من بشاعة ما يمارسه الصهاينة على مدار الساعة نحو الأطفال والنساء من قتل وحشي وتجويع متعمد على مرأى ومسمع من العالم.
ويتعجب البعض من المسلمين أنفسهم كيف لـ«حماس» أن تحتفظ بتلك الأخلاق السامية التي تفوق في روعتها كافة الأعراف والقوانين الدولية المعروفة في التعامل مع الأسرى؟! لماذا تصر المقاومة الإسلامية على الاستمرار في هذا النهج بالرغم من رعونة العدو وغياب عامل الأخلاق في حربه غير الشريفة وغير الأخلاقية في القطاع؟!
إن السر في هذا يكمن حول طبيعة المحارب الفلسطيني وعقيدته التي يتحرك من خلالها، عقيدة التوحيد التي تضبط سلوكيات الفرد المسلم والحاكم المسلم والجيش المسلم حتى في الحروب والتعامل مع العدو سواء في السلم أو الحرب، وتوضيحاً لجملة تلك المبادئ والقوانين الإسلامية سوف نبدأ سلسلة رمضانية تحت عنوان «قرأت لك» اختصاراً لوقت القارئ لمجموعة من الكتب القيمة في شهر العبادات الكريم:
وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا «العلاقات الدولية في الإسلام» للإمام محمد أبو زهرة(1) يوضح جملة تلك الأخلاق التي تضع قاعدة مهمة وهي أن السلم هو الحالة الافتراضية والدائمة، وأن الحرب هي حالة استثنائية بالنسبة للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، وإليكم تلك الضوابط:
أولاً: الكرامة الإنسانية:
يستشهد الكاتب بأن الكرامة للإنسان مطلقة بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو دينه بآيات من كتاب الله حيث يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم لآدم وكلكم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح» (صححه الألباني)، فالكرامة الإنسانية يقرها القرآن لكل من يتحقق فيه معنى الإنسانية.
ثانياً: الناس جميعاً أمة واحدة:
اعتبر الإسلام أن الناس جميعاً أمة واحدة استناداً لأكثر من موضع في كتاب الله، ومنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1)، فقد أرجع البشرية لأبوين كريمين خلقهما الله عز وجل بيده.
وبين كتاب الله أن اختلاف البشرية ليس للتقاتل والتحارب والصراع، وإنما للتعارف والتكامل وخلافة وتعمير الأرض، قائلاً سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، ولقد جاء الإسلام فحارب العصبية القومية والإقليمية، ليكون العدل هو السائد، فلا عصبية في الإسلام رغم أن هذا لا يعني حب الأوطان وحب العشيرة، لكن الحرام أن يتعصب الفرد لعشيرته فيشاركها أو يقرها على الظلم.
ثالثاً: التسامح:
والتسامح الذي يقصده الإسلام هو التسامح الكريم، ليس فيه استسلام للشر أو الأشرار، بل التسامح الذي يدفع للتي هي أحسن لإزالة العداء وإفساح المجال للخير ونشر دعوة الله بسلام، والصفح مع القدرة على القصاص وليس دون ذلك.
ومن أمثلة التسامح الجميل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم موقفه يوم «فتح مكة» حين استتب له الأمر ورضخ الجميع للنصر والفتح ليقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟»، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم المنتصر المتسامح: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء»، كذلك موقفه الكريم بعد غزوة بني المصطلق يخرج من الأسر مائة بيت أراد المسلمون أن يتسرقوهم، بأن تزوج جويرية بنت الحارث كبير هذه القبيلة، فأطلق كل مجاهد من في يده وقالوا: كيف نسترق أطهار رسول الله؟! ومن هنا تظهر قيمة التسامح في الإسلام وأنه هو السياسة الإسلامية في حالة السلم.
رابعاً: الحرية:
الحرية الشخصية مكفولة في الإسلام، حرية الفكر، حرية التنقل، حرية الإقامة، وتحرير النفس من الهوى النفسي هو أول درجات الحرية، وجعل نبي الإسلام القوي هو الذي يملك نفسه عند الغضب، كذلك تحرير العقل والفكر والعقيدة، فلا إيمان إلا باقتناع وإيمان كاملين، ولا إكراه في الدين بنص كتاب الله احتراماً لعقل الإنسان وحريته في الاختيار مع توضيح تبعة ذلك الاختيار، وأنه حر في اختياره بصورة كاملة، والله وحده من يحاسبه على ذلك الاختيار.
خامساً: الفضيلة:
والفضيلة والأخلاق ثوابت إنسانية، فالخلق السيئ سيئ سواء فعلته في وطنك أو خارجه، وسواء أقدمت عليه مع مسلم أو غير مسلم، وسواء كان ذلك في السلم أم في الحرب.
والقرآن أشار للرد على اعتداء الكافر بالمثل، لكن إذا انتهك الكافر حرمات الفضيلة فليس على المسلم الرد بالمثل، وإنما التعامل بأخلاق دينه التي تربى عليها، فقد مثَّل الكفار في غزوة «أُحد» بجثة حمزة بن عبدالمطلب، وبالرغم من ذلك لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالمثل ويمثل بجثامين قتلى الكفار، فلا يقتل الأسير، ولا تقتل النساء ولا الأطفال وإن أقدم العدو على ذلك.
سادساً: العدالة والمعاملة بالمثل:
وجعل الله عز وجل العدالة في الإسلام أساس التعامل بين الأفراد بعضهم بعضاً، وبين الأفراد والدول، فالدولة المسلمة قانونها العدل وإن كان بين مواطنيها كافرون، والنصوص الشرعية تجعل العدل قانوناً وشريعة يتحاكم بها الناس أمام سيادتها، ففي السلم يكون حسن الجوار قائماً على العدالة، وفي الحرب يكون الباعث عليها تحقيق العدالة، وفي الإسلام مبدأ وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به»، وانطلاقاً من هذا المبدأ كان حرياً بالمسلم أن يرد الاعتداء ولا يزيد إلا بقدر ما يحميه من تكرار الاعتداء عليه.
سابعاً: الوفاء بالعهد:
جاء الإسلام بالسلم، وإن كان أشد ما يبغضه الاستسلام، وقد وجه القرآن أتباعه للأخذ بالسلم إذا مالَ أعداؤهم له، والسبيل لاستقرار السلام هو عقد المعاهدات، وحث القرآن على الوفاء بالعهد وعدم النكث، وكان صلى الله عليه وسلم يحث على الوفاء بالعهد وينفّر من الغدر، وكان يعتبر أن أعظم غدر هو غدر الحكام فيقول: «لا غادر أعظم من أمير عامة»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة وأكبر لواء غدر أمير عامة».
ثامناً: المودة ومنع الفساد:
بما أن الإسلام جعل الناس أمة واحدة، فإن الأخوة الإنسانية ثابتة يجب وصلها كل هذا من منطلق الهيمنة الإسلامية والقوة والندية، فالبر ثابت للمسلم وغير المسلم، حيث يقول تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، وفي أثناء الحرب مع المشركين يجب الفصل بينهم وبين رعايا الدولة المسلمة للكفار الذين يعيشون على أرضها ما لم يظهروا عداء أو ميلاً تجاه الكافرين أمثالهم، واتفق فقهاء المسلمين على المصالح الإنسانية التي يجب حفظها، وهي: المحافظة على النفس، المحافظة على الدين، المحافظة على النسل، المحافظة العقل، المحافظة على المال.
تاسعاً: في الحرب:
أولاً يجب أن يعلم المسلم أن الباعث على الحرب أو القتال مأخوذ من نصوص القرآن والسُّنة ومن السيرة النبوية المطهرة، فيقول تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 193)، والنصوص القرآنية تمنع الاعتداء وتأمر بالصبر إذا امكن رد الاعتداء بغير قتال، فالحرب خيار حين لا يوجد خيار غيره لردع الكافرين عن غيهم إذا اعتدوا على المسلمين، وخلاصة القول؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل لأمرين:
1- دفع الاعتداء.
2- تأمين الدعوة الإسلامية لأنها دعوة الحق.
عاشراً: أخلاقيات الحرب ومعاملة الأسرى:
من أخلاقيات الحرب أولاً أن يعرض القائد على الطرف الآخر ثلاثة أمور؛ إما الإسلام، أو العهد ليأمن المسلمون جانبهم وليؤمن الإسلام دعوته، أو القتال، وقد حرص نبي الإسلام على أن يحمل قادته فكرته في أن الحرب هي الاستثناء وليس القاعدة، وفي وصيته لقادته يقول نبي الرحمة: «انطلقوا باسم الله وبالله وعلى بركة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين»، وكانت أول وصية لأبي بكر في بعوثه إلى الشام هي عدم قتل رجال الدين أو التدخل في حريتهم، وأما الأسرى فقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالأسارى خيراً»؛ فلا تجويع، ولا تعذيب، ولا إهانة.
تلك هي خلاصة كتاب «العلاقات الدولية في الإسلام» ببنوده الموثقة بآيات القرآن الكريم والمستندة إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكما تابعنا وشاهدنا كيف كانت المقاومة الإسلامية المجيدة في غزة قد أخذت على عاتقها تنفيذ القيم الإسلامية في حرب هي الأبشع من نوعها، وكيف أن جملة تلك الأخلاق التي ألزمت بها نفسها كيف غيرت نظرة العالم وبدلت التعاطف الجماهيري العالمي من معية العدو للتأييد المطلق لمطالب أصحاب الأرض، وكيف أنها أعادت القضية لصدارة الاهتمام العالم، وأربكت العدو وأفسدت مخططاته في إنهاء القضية بشكل جذري، ولمن يريد المزيد فليرجع للكتاب الرائع.
______________________
(1) محمد أحمد مصطفى أحمد المعروف بأبي زهرة (ولد 6 من ذي القعدة 1316هـ/ 29 مارس 1898م – توفي 1394هـ/ 1974م، بالمحلة الكبرى شمال مصر)، عالم ومفكر وباحث وكاتب مصري من كبار علماء الشريعة الإسلامية والقانون في القرن العشرين (من مقدمة الكتاب بتصرف).