قد يتساءل البعض: كيف لهذا الشهر الكريم أن نحقق فيه انتصاراً، بل وهو شهر الانتصارات، ونحن صائمون متعبون في إجهاد وتعب؟ كيف للشهر الكريم أن يكون سر الانتصارات وصانع الأبطال؟
هناك علاقة وثيقة بين الصيام والجهاد، كلاهما مجاهدة ومقاومة للنفس والعدو، فالصيام تدريب على الجهاد، فكانت معارك فاصلة حاسمة خاضها المسلمون في الشهر الكريم، بل كان الفوز والغلبة حليفهم، فكانت ملحمة يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في «بدر الكبرى».
هذه الإشارة اللطيفة أن أول رمضان للمسلمين هو نفسه أول رمضان يرفعون راية الجهاد فيه، فتطابق الصيام والجهاد حتى في عام فرضهما، ثم الفتح الأعظم فتح مكة المكرمة، بل وإزالة معاقل الشرك والوثنية، وتطهير الكعبة من أصنام تدنسها، وإعلاء كلمة الله تعالى.
هنا نتذكر كلمات ماتعة للشيخ حسن البنا: «ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنتم عما سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولاً».
إذن العلاقة واضحة بينة، أول أسباب النصر انتصار المسلم على نفسه أولاً، فمن ينتصر على شهوته وهواه ويقهر كل هذا كان أهلاً أن يكون من صناع النصر في هذا الشهر المبارك.
يكتب أحد مشايخنا: «إن أمتنا بحاجة إلى أن تصبر صبر الحر، على مقاومة عدوها، ومنازلة أعدائها، لا على إيذائهم وإذلالهم وتحديهم.. ولا والله لن تطيق هذا ولن تقدر عليه إلا إذا تحررت من سلطان البطن وعبادة الشهوات، فذلك سر تمزقها وهوانها، وإخلادها في الأرض، وإيثارها العافية، وهيهات لها، وفي شهر رمضان فرصة وخلفة وزاد لمن أراد».
أسباب النصر في رمضان
نحسب أن الأسباب التي أدّت إلى انتصار المسلمين في هذا الشهر الكريم ترجع إلى:
– القوة الروحية: الأجواء التي يعيشها المسلم في هذا الشهر الكريم تنعكس قوة روحية تورثه يقيناً وثباتاً وإقداماً على الجهاد، ونعجب من حديث الأعداء في فلسطين عن خطورة الشهر، وأنه سيورث المقاومة قوة وعزيمة وبأساً، وأنهم يحذرون من القوة الروحية التي يورثها الشهر الكريم للمجاهدين!
– السر الأهم وهو غاية الصيام «لعلكم تتقون»: التقوى جعلها الله تعالى الغاية من الصيام، وهي ميدان التنافس، وهي سر من أسرار الانتصار، ونراها تحققت في قلوب أطهر الأجيال فاستطاعوا أن ينتصروا على عدوهم رغم أنهم الأقل عدة وعدداً.
– القرآن الكريم: والعلاقة بينة واضحة، فهي علاقة إيمانية وثيقة، فشهر رمضان هو الوعاء الزمني للقرآن، حيث أنزله الله فيه فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: 185).
ولقد اهتم السلف الصالح بالقرآن في شهر رمضان، فكان المغذي لهم والصانع لانتصاراتهم، بل وكانت وصيّتهم في المعارك: «يا أصحاب البقرة بطل السحر اليوم».
فكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات، وأقبل على قراءة القرآن، وكان محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب الصحيح، يختم في رمضان في النهار كلَّ يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كلَّ ثلاثَ ليال بختمة بل كان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين، وكان أبو حذيفة يقول: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالأفعال، فكانت العلاقة بالقرآن عاملاً أساسياً من عوامل النصر وسراً عظيماً من أسراره.
– خلق الصبر: وهو الذي يسمّى به الشهر الكريم فهو شهر الصبر، فالصائم يمنع نفسه عن شهواته وملذّاته، بل ويحبسها عن مألوفاته كل هذا بالصبر، مدرسة الصبر العظيمة التي تخرّج فيها الصابرون العظام المجاهدون الأفذاذ، وهو مطلب المقاتلين أثناء المعارك: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 250).
وقال صلى الله عليه وسلم: «وأن النصر مع الصبر» (رواه أحمد)، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأنّ النصر مع الصّبر وأن الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسراً» (رواه أحمد)، وقال عمر لأشياخ من بني عباس: بم قاتلتم الناس؟ قالوا: بالصبر لم نلق قوماً إلاّ صبرنا لهم كما صبروا لنا.
– سلاح الدعاء: من أهم أسباب النصر، فكان بين آيات الصيام قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).
ويقول الإمام البيضاوي: واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيداً له وحثاً عليه.
والدعاء في رمضان له أهمية ومنزلة عظيمة، وهو السرّ الخفي في النصر، فرأينا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة «بدر الكبرى» يكثر منه حتى سقط رداءه عن منكبيه حتى جاءه النصر بالبشرى أنّ الله معه، وأنّ الملائكة ستقاتل معه فلا يحزن: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9).