يرى علماء النفس أن الانضباط هو: السَّيطرة على الذَّات أو التَّصرُّفات بهدف التَّطوير والتَّحسين، وذلك من خلال الخضوع للقانون والالتزام به، فالمنضبط هو الذي يعرف القانون وينفذه كما ينبغي، بقصد التطوير والتحسين.
فهل نجد في فريضة الصيام ما يبين ملامح هذا الانضباط؟
إن ملامح الانضباط متنوعة، فهي تشمل الانضباط في الزمان والمكان والحال.
أما الانضباط في الزمان، وهو الذي يعني الالتزام بالمواعيد المحددة سلفاً وعدم تجاوزها؛ فإن الناظر في فريضة الصيام يجد أنها محددة بوقت معين، وهو شهر رمضان، فهل يمكن أن نصوم الفريضة في شهر غير رمضان؟ إن الله تعالى يقول: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185)، فلا يجوز أن نتجاوز الوقت في تغيير موعد الصيام.
كما أن صيام رمضان منضبط برؤية الهلال، فلا نصوم إلا إذا رأينا الهلال، ولا نفطر إلا إذا رأينا الهلال، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُمّ علَيْكُم فأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ»، وتأسيساً على هذا فإنه لا يجوز للمسلم أن يفطر إذا دخل وقت الصيام برؤية هلال رمضان، ولا يجوز له أن يصوم إذا دخل وقت الإفطار برؤية هلال شوال، بل إن الإجماع منعقد على حرمة صيام أول يوم من شوال وهو يوم العيد، وذلك من أجل تحقيق الانضباط في أداء العبادات.
ويضاف إلى ذلك أن الصيام يكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يصح لأحد أن يطيل وقت الصيام، فيؤخر الإفطار رغبة في زيادة الثواب، فإن هذا خروج عن الانضباط، وحتى لا يبادر الصائم بذلك؛ جعل الإسلام تعجيل الفطر أمراً محبوباً، ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَزَالُ النَّاسُ بخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ»، ففي هذا التحديد الزماني الشامل لفريضة الصيام ما يؤكد أن الانضباط في المواعيد سمة أساسية في العبادات التي يلتزم بها المسلم في كل جوانب حياته.
أما الانضباط المكاني؛ فيظهر في فرضية الصيام بالنهار وليس بالليل، فمكان الصيام هو النهار، فلا يجوز للمسلم أن يجعل الصيام بالليل، لأن الله تعالى يقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة: 187)، كما لا يجوز للمسلم أن يصل الليل بالنهار في الصيام، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال في الصيام، قائلاً: «لا تُوَاصِلُوا».
ومما يبين الانضباط المكاني أيضاً أن الصيام يُفرَض على المقيم والسليم، فلا يخاطب المسافر ولا المريض بالصيام، وذلك لفقدان المكان أو المحل الذي يجب فيه الصيام، حيث قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 185).
أما الانضباط في الحال والسلوك؛ فيظهر في الصيام من بدايته إلى نهايته، فبداية الصيام هي النية ولا بد أن تكون منضبطة بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، فإذا فَقَدَ المسلم نيته فلا صيام له، لأن النية فرض في الصيام، ويضاف إليها: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يجوز للصائم أن يخالف ذلك، بل يلتزم به حتى وإن كان منفرداً لا يراه أحد.
كما يظهر انضباط الصائم في حاله وسلوكه من خلال النظر إلى الهدف من الصيام، وهو تحقيق التقوى، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، والتقوى ما هي إلا انضباط، فهي تعني: أن يجدك الله حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك(1).
ومن أمارات الانضباط في حال الصائم وسلوكه أن يضبط كلامه، فلا يقول إلا الحق ولا ينطق إلا بالصدق، وإلا لو ترك العنان للسانه أن يتحدث بالغيبة والنميمة واللغو وقول الزور فإنه يفقد ثواب صيامه، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ».
ولا ينضبط الصائم في كلامه فقط، بل في انفعالاته أيضاً، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ»، إنه منضبط في أقواله وأفعاله، بل إن الانضباط يتسع ليشمل كل جوارحه كلها، فقد أخرج البيهقي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمِعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً»(2).
إن الصيام يدعو إلى الانضباط الكامل في المواعيد الزمانية والحدود المكانية والأحوال القلبية والتصرفات السلوكية، بل إنه يضبط بقية العبادات الإسلامية، فهو يدفع المسلم إلى المحافظة على الصلاة وإخراج الزكاة، كما أنه يضبط العادات اليومية من طعام وشراب وتعاملات حياتية.
إنه يجسد الانضباط والاستقامة الكاملة في حياة الناس، فما أجمل أن نغتنم شهر رمضان في ضبط النفس الإنسانية على مدار الحياة كلها.
__________________________
(1) الكفاية شرح بداية الهداية: لأبي حامد الغزالي، ص 65.
(2) شعب الإيمان: للبيهقي، (3/ 317).