إن شخصية أسامة بن زيد شخصية لها وضعية خاصة في التاريخ الإسلامي؛ فلم تكن شخصية هامشية، بل كانت في عين الأحداث والمشاهد.
وما ذلك إلا لمنزلته عند النبي ﷺ؛ إذ أنزله رسول الله ﷺ منزلة الحفيد في المحبة والعناية والاهتمام؛ قال أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا؛ فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا»(1).
والسبب في ذلك أنه كان ابن أم أيمن (بركة) حاضنة رسول الله، ومولاته، وابن زيد بن حارثة الذي كان النبي ﷺ تبناه قبل إبطال التبني، الذي لم يفارق رسول الله ﷺ(2)، وبلغ من كرامته أن ذكره الله باسمه في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) (الأحزاب: 37).
فهذا الحب لأسامة امتداد لحب رسول الله ﷺ لأبيه وأمه من قبل، حتى قيل عنه: «الحِب ابن الحِب»(3).
وقد تربى في بيت النبي ﷺ وتحت عينه، وكان يباشر بنفسه العناية بأسامة والاهتمام به؛ فعن عائشة أن أسامة عثر بأُسْكُفَّة -أو عتبة- الباب، فشُج في جبهته فقال لي رسول الله ﷺ: «أميطي عنه -أو نحِّي عنه- الأذى»، قالت: فتقذرته، قالت: فجعل رسول الله ﷺ يمصه ثم يَمجه وقال: «لو كان أسامة جارية لكسوته، وحلَّيته حتى أنفِّقه»(4).
وكان ملازمًا للنبي ﷺ في كل أحواله وأخصها، ولصيقًا به، ورديفًا له في جولاته؛ فمما ورد أن النبي ﷺ أردفه خلفه على حمار عليه قطيفة، حين ذهب يعود سعد بن عبادة، قبل وقعة بدر، وكان صغيرًا وقتها، وكذا أردفه وراءه على ناقته حين دفع من عرفات إلى المزدلفة في حجة الوداع(5).
تلك الملازمة التي توفرت لديه لم تتوفر لغيره من غلمان المسلمين، وكان لها الأثر الكبير في شخصيته؛ ومنها الشجاعة والإقدام؛ حيث إنه تاق للجهاد وهو صغير فعرض نفسه على النبي ﷺ في غزوة «أُحد»، فرده ﷺ، ثم أجازه يوم «الخندق» مع مجموعة من شباب الصحابة(6).
وقد وثق رسول الله ﷺ في رأيه ورجاحة عقله، ففي «حادثة الإفك» دعاه حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، يَسْتَأْمِرُهُ فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَشَارَ أسامة عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلَكَ، وَمَا نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا(7).
وقد جمع إلى رجاحة العقل قوة البأس، وظهرت فيه من المواهب والقدرات الخاصة ما جعل الرسول ﷺ يؤمِّره ويرسله على رأس البعوث والسرايا، قال الحضرمي، رجل من أهل اليمامة: بلغني أن رسول الله ﷺ بعث أسامة بن زيد، وكان يحبه ويحب أباه قبله، بعثه على جيش، وكان ذلك من أول ما جرب أسامة في قتال، فلقي فقاتل، فذكر منه بأس.
قال أسامة: فأتيت النبي ﷺ وقد أتاه البشير بالفتح، فإذا هو متهلهل وجهه، فأدناني منه ثم قال: «حدثني».
فجعلت أحدثه فقلت: فلما انهزم القوم أدركت رجلاً وأهويت إليه بالرمح فقال: لا إله إلا الله فطعنته فقتلته.
فتغير وجه رسول الله ﷺ وقال: «ويحك يا أسامة، فكيف لك بـلا إله إلا الله؟ ويحك يا أسامة، فكيف لك بلا اله إلا الله؟»، فلم يزل يرددها عليَّ حتى لوددت أني انسلخت من كل عمل عملته واستقبلت الإسلام يومئذ جديدًا، فلا والله لا أقاتل أحدًا قال: لا إله إلا الله بعدما سمعت رسول الله ﷺ(8).
هذا الدرس وعاه جيدًا وانتفع به فلم ينخرط في أمر الفتنة التي وقعت بين الصحابة وقال: والله لا أدخل فيه أبدًا(9)، فكف يده، ولزم منزله(10).
وليقين رسول الله ﷺ أن أسامة تعلم الدرس ووعاه تمنى له أن يكون هو من يحمل الراية يوم «مؤتة» بعد استشهاد أبيه زيد؛ فعن قيس بن أبي حازم أن النبي ﷺ حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد بن الوليد، قال النبي ﷺ: «فهلا إلى رجل قتل أبوه؟»، يعني أسامة بن زيد(11).
ولم يمر مقتل زيد على النبي ﷺ مرور الكرام، بل أرسل أسامة ليؤدب هؤلاء القوم، وهم أهل أبنى، وهي أرض السراة ناحية البلقاء من بلاد الشام، فقال له: «سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش»، وعقد لأسامة لواء بيده، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين! فغضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله! وايم الله إن كان للإمارة لخليقًا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإنهما لمخيلان لكل خير، واستوصوا به خيرًا؛ فإنه من خياركم»(12).
فمات رسول الله ﷺ قبل خروجه، فكان أول قرار للخليفة أبي بكر أن ينفذ بعث أسامة؛ فغزا على فرس أبيه سبحة، وقتل قاتل أبيه في الغارة، وما أصيب من المسلمين أحد، وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورًا بسلامتهم(13).
وكان لهذا البعث صدى واسع عند هرقل والروم، وتعجبوا كيف لم ينشغل المسلمون بموت نبيهم، فقالت الروم: ما بالى هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا(14)!
وكان عمره ثماني عشرة سنة، وكان الخليفة عمر لم يلق أسامة قط إلا قال: «السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أمير أمره رسول الله ﷺ، ثم لم ينزعه حتى مات»(15).
وكان أسامة بن زيد يدعى بالإمارة حتى مات(16).
________________________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب: وَضْعِ الصَّبِيِّ عَلَى الْفَخِذِ، ح(6003).
(2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 61).
(3) تهذيب الكمال للمزي (2/ 338).
(4) أخرجه أحمد في المسند، ح(25861)، وقال الأرنؤوط: حديث حسن بطرقه.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن كثير، (4/ 617).
(6) انظر: الفصول في سيرة الرسول ﷺ لابن كثير، ص 146.
(7) جزء من حديث أخرجه البخاري في التفسير، باب: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾، ح(4750).
(8) طبقات ابن سعد، (4/ 69).
(9) سير أعلام النبلاء للذهبي، (2/ 504-505).
(10) السابق، (2/ 501).
(11) طبقات ابن سعد، (4/ 62).
(12) السابق، (2/ 190).
(13) السابق، (2 /191) باختصار.
(14) السابق، (4/ 68).
(15) تاريخ دمشق، (8/ 69).
(16) مصنف عبدالرزاق (5/ 483).