تتفق أغلب دول الخليج على تراث «الغبقة»، أو العشاء المتأخر في رمضان، خصوصاً في العشر الأواخر، ويدعون لها الأهل والأصدقاء في بيوتهم، ويعتبرونها فرصة لتعزيز التعارف والترابط الاجتماعي بينهم، وهي من العادات التي تجمع بين التراث الشعبي والفائدة الصحية المنسجمة مع الهدى النبوي.
و«الغبقة» كلمة عربية مشتقة من الفعل «غبق»؛ وهو البقاء في الليل أو السهر فيه، وتتنوع مكوناتها بحسب تقاليد كل بلد، ولكن عادة ما تشمل اللحوم، والأرز، والخضراوات، والحلويات، وتقام غالباً بين الساعة الحادية عشرة ليلاً والثانية صباحاً، بحيث يسهل على المدعوين تلبية الدعوة بعد صلاة التراويح، ويلتزم الخليجيون عند إحيائها بارتداء اللباس التقليدي وإبراز النواحي التراثية.
وبدأ هذا التقليد التراثي أولاً في مجالس القرى والمدن، ومع احتفاظها بمدلولاتها لم تعد تقام في المنازل أو المزارع فقط، بل انتقلت إلى الفنادق والمطاعم الكبرى، وتتنوع فعالياتها لتشمل المسابقات والأنشطة الترفيهية.
و«الغبقة» عادة صحية مفيدة بشرط عدم الإسراف، إذ يتم فيها إعداد المعدة لتناول الوجبة الرئيسة بعد إفطار خفيف لا يتعبها، وهي نظام غذائي رمضاني مفيد لعموم الصائمين، ولمرضى السكري منهم خصوصاً الذين يُفضّل لهم تناول وجبات صغيرة ومتكررة، عوضاً عن تناول وجبة كبيرة مرة واحدة.
وفي هذا الإطار، تشير دراسة أوردته مجلة «Journal of Nutrition and Metabolism»، في عام 2019م، إلى أن تناول «الغبقة» يمكن أن يكون له تأثيرات إيجابية على الصحة إذا تم القيام به بشكل صحيح، إذ يسهم في تحسين مستويات الطاقة والأداء البدني خلال فترة الصيام.
ويتسق ذلك مع الهدي النبوي في تناول الطعام، كما ورد في سنن الترمذي عن النبي صلاة الله عليه وسلم أنه قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه».
وللكويت وعُمان خصوصية فريدة في تراث «الغبقة»، إذ تتميز في الكويت بمجالس الديوانيات التي تكون عامرة بالرواد، وتقام فيها حفلات الإفطار الجماعي، وفيها يتسامر الحضور وتدور النقاشات حول القضايا التي تمس حياتهم اليومية، وتُجرى بعض المسابقات الخفيفة بينهم فتضفي على الأجواء متعة ومرحاً.
كما تقام مآدب «إفطار الصائم» في كثير من مساجد الكويت للفقراء والمحتاجين، وهي منتشرة بشكل كبير في أرجاء الكويت، وفيها يتم تقديم الطعام والشراب للصائمين بإشراف الوزارات والمؤسسات الخيرية والشركات العامة والخاصة طوال الشهر الفضيل.
وفي عُمان، من العادات التي لا تزال تمارَس في الشهر الفضيل أيضاً الإفطار الجماعي سواء في المساجد أو تجمّع أفراد العائلة في بيت أكبرهم سناً، حيث يلتقي الصغير والكبير على المائدة مجتمعين في حلقة واحدة، كما أن بعض القرى لا تزال تحافظ على إفطار جماعي بما يعرف «السبلة» أو «المجلس».
وتضم السبلة بعض الأكلات العُمانية الشعبية في الشهر الفضيل مثل «الهريس» و«العرسية» و«الثريد»، وتكون حاضرة على مائدة الإفطار إلى جانب ثلاثية: التمر والماء واللبن، التي يكتفي بها العمانيون وقت المغرب، بحسب صحيفة «عمان» المحلية.
وتساعد تلك العادة أهل عُمان على أداء صلاة التراويح بمعدة خالية من تكدس الطعام، ما يمثل صحة لأبدانهم من جانب، ومعيناً على التركيز في طاعات الشهر الفضيل وروحانيته من جانب آخر.
وتشير أستاذة التربية في جامعة السلطان قابوس نجاة بنت عبد الله العوفي إلى أن التراث الشعبي في رمضان يعد مصدراً ثرياً للتعلم والتربية والتثقيف، ويحتوي على عناصر ترسخ القيم الإيمانية والأخلاقية في نفوس الأجيال، وتنمي مهاراتهم وقدراتهم وإبداعاتهم، وتزيد من اندماجهم ومشاركتهم في المجتمع.
وترى العوفي أن الأسرة والمدرسة والمسجد ومؤسسات المجتمع مطالبة بالاستفادة من التراث الشعبي في رمضان وتقديمه بطرق معاصرة ومشوقة ومناسبة لكافة الأعمار والمستويات الاجتماعية، وفق صحف عمانية.
وإلى جانب تعزيزها لأواصل الترابط بين أبناء المجتمع، فإن لـ«الغبقة» فرادة ثقافية تعكس الجمع بين العادات والقيم الدينية، إذ تعتبر متسقة مع الهدي الوارد بالسُّنة النبوية في تناول الطعام والشراب، كما تعكس أيضًا التأثير الثقافي للمجتمعات الخليجية، حيث تجتمع العائلة والأصدقاء لتناول هذه الوجبة المميزة، ويشكل هذا التواصل الاجتماعي جزءًا مهمًا من التجربة الرمضانية.