يعتبر الحكم الرشيد من المفاهيم التي تجذب الحواضن السياسية والاجتماعية والثقافية؛ نظراً لالتصاقه بمبادئ العدل والإنصاف والإشراك في تدبير الشأن العام الذي تنتج عنه قيم الشفافية والمشاركة في المسؤوليات.
كما أن هذا المفهوم من المصطلحات المناسب استخدامها في حقل الدراسات الحقوقية في المجتمعات المسلمة؛ نظراً لارتباط دلالته بمبادئ الحكم في صدر الإسلام، وأيام الخلافة الراشدة.
يؤكد مفكرون وباحثون، في حديثهم لـ«المجتمع»، أن المؤسسات الدعوية من أهم المؤسسات المجتمعية التي تساهم في إرساء مبادئ هذا الحكم الرشيد، وتنبه الى خطورة الانزلاق نحو الاستبداد، بالنظر إلى لب عملها المرتكز على الإصلاح والدعوة إليه بخطاب موجه إلى الحاكم والمحكوم على حد سواء، والمستند إلى حركية دؤوبة تكاد ترتبط بعملها اليومي.
إذ إن هذه الحركية لا بد أن تثمر وعياً في المجتمع والدولة يمتد إيجابياً على مستوى الممارسة، وتسهم بذلك في تحسين شؤون الناس في دينهم ودنياهم، ولن يتأتى ذلك إلا باستعادة قيم العدل والمساواة التي ارتبطت بظهور الإسلام، وإرساء مبادئ الحكم في صدره.
هروس: خطاب المؤسسات الدعوية يجب أن يظهر مبادئ الشورى والعدل والحرية
في هذا السياق، يبين الباحث الأكاديمي المغربي فيصل الأمين البقالي أن العمل الدعوي جزءٌ من العمل الإصلاحي، وأنه من لوازم الإسلام لقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، وقوله سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (المائدة: 78).
ويؤكد البقالي أن الدعوة إنما هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، كما أشارت إليه بوضوح الآيتان المشار إليهما، كما تأتي الدعوة أيضاً بمعنى النصيحة، كما أثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» (جزء من حديث الذي رواه تميم الداري، صحيح مسلم)، فلما سأله الصحابة عن الجهات التي تكون لها النصيحة، أجابهم بأنها «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
فكان الأئمة (القائمون بالأمر أو الحكام) والعامة ضمن من تكون لهم النصيحة، أو ضمن مَحَلّ الدعوة، أو ضمن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طبعاً على اختلاف خصائص النصيحة وطبيعتها من مقام إلى مقام، فالنصيحة لله ليست هي النصيحة لكتابه، وليست هي لرسوله، وقطعاً أنها ليست هي نفس النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، كما أن النصيحة لعامة المسلمين تمتاز عن النصيحة لأئمتهم لامتياز كلِّ مَحل عن الآخر.
ويشير المتحدث ذاته إلى أن العمل الدعوي يتجه إلى الناس وإلى الساسة، أو إلى المجتمع وإلى الدولة، فالدعوة في المجتمع لها مقصدان؛ أولاً: تحصيل الوعي بالحال وتحصيل الوعي بالمآل، وثانياً: تحصيل الإرادة على الاستقامة، وتحصيل الانخراط في الدعوة لأجل الاستدامة (استدامة العمل الدعوي)، والدعوة في الدولة لها مقصدان؛ أولاً: تحصين الوازع (ضد المنكر)، وثانياً: تحصيل الدافع (لأجل المعروف).
وعليه، فإن العمل الدعوي بهذا الاعتبار هو آلية تغذية مزدوجة، تَزرَعُ في البنية الاجتماعية فتثمر حالة وعي واستقامة، وتزرع في النبتة السياسية فتثمر حالة مصداقية وفاعلية، فتكون بحق محركاً لدينامية مدنية وسياسية إيجابية وفاعلة، وذلك هو وسم الحكم الرشيد.
خطاب وممارسة
من جانبه، يؤكد الأكاديمي المغربي حفيظ هروس، الباحث في الفكر الإسلامي، أن المؤسسات الدعوية المستقلة يمكن أن تساهم في إرساء مبادئ الحكم الراشد على مستويي الخطاب والممارسة.
مايابي: توسيع مجالات التثقيف الإسلامي ليشمل الحقوق والأخلاق والمعاملات
ويوضح أن الخطاب الدعوي اليوم يغلب عليه الوعظ المستغرق لأمور الآخرة وأحكام العبادات، وخصوصاً عند الدعاة المستقلين، الذين ينأون بأنفسهم عن الاشتغال بالأمور العامة، لكن المؤسسات الدعوية تتميز بتنوع حقول الاشتغال ومأسستها، لهذا يجب أن يمتد خطابها الدعوي ليشمل إظهار مبادئ الحكم الرشيد في الإسلام، وإشاعتها بين الناس، ومن هذه المبادئ الشورى والعدل والحق في نقد الحكام وتقويمهم استناداً إلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغيرها.
أما على مستوى الممارسة، وبما أن المؤسسات الدعوية في أصلها جمعيات لها هيكل تنظيمي، فهي بهذا الاعتبار لها قدرة على تجسيد مبادئ الحكم الرشيد، وذلك من ناحيتين؛ بناء مؤسساتها الداخلية على هذه المبادئ، وخصوصاً مبدأ الشورى، وتربية المنتسبين إليها على هذه المبادئ، باعتبار أن هذه المبادئ لا يمكن تجسيدها في مؤسسات الدولة إذا كان المجتمع خالياً منها، كما يشرح المتحدث ذاته.
بدوره، يؤكد المفكر والأكاديمي المغربي عبدالهادي المهادي أنه إذا تجاوزنا نقاشاً ضرورياً حول مفهوم «الحكم الرشيد»، وسلّمنا بأنّنا مُتّفقون على خطوطه العريضة، والمتمثّلة في مَبْدَأَيْ الشورى والعدل، الشورى التي تُحدّد مشروعيته التّأسيسية، والعدل بشقّيه السياسي والاقتصادي، الذي يصوغ مشروعيته الإجرائية، فإنّنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام سؤال الجهات السياسية والمجتمعية التي تساهم في إرساء مبادئه الكلية والتفصيلية، وسنجد أن المؤسسات الدعوية، رسمية كانت أم مجتمعية، تقف ضمن مكونات الصفوف الأولى التي تحمل على عاتقها هذه المسؤولية، إذ يُعتبر هذا الهَمّ التنظيري أحد أهم ما يشكل ماهيتها وهويتها.
ولكي تقوم تلك المؤسسات بهذا الدور على أحسن وجه، يوضح المتحدث ذاته، يجب أن تتمتع أولاً باستقلالية تامة في الرأي والقرار، وقبل ذلك استقلالية مالية تحميها من كل ضغوط ومساومة على اجتهاداتها وتقديراتها.
ثم يجب، ثانياً، أن تُشكل من نفسها قوة في اتجاهين: الاقتراح والاقتحام، الأولى لها طابع اجتهادي تنظيري، وهنا يُطرح عليها سؤال التوفر على المختصين والخبراء وأهل النظر، والثانية ذات صبغة «ضغطية»، وعبرها يطرح عليها سؤال امتلاك آليات مُدافعة السلطة السياسية، وعبرها تفرض الاحترام والتقدير والإنصات، وبدون هذه القوة ذات الرأسين لن يكون لتلك المؤسسات سوى دور التابع.
المهادي: استقلالية القرار وإنفاق المال ضرورة لتفعيل دور المؤسسات الدعوية
ثم يأتي دور عنصر اليقظة، فالمؤسسات الدعوية يجب أن تكون بمثابة الجرس الذي ينبّه المجتمع لكل انزلاق نحو الاستبداد.
استعادة القيم
أما الأكاديمي الموريتاني حبيب الله بن مايابى، أستاذ الحوار الديني والحضاري في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، فيؤكد أن المؤسسات الدينية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي قادرة على ترسيخ خصائص الحكم الرشيد بين أبناء الأمة حتى تكون ثقافة عامة لا يمكن الخروج عليها.
ويوضح أن العلماء والمؤسسات الدعوية بإمكانهم المشاركة في ترسيخ قيم الحكم الرشيد إذا تم الانطلاق من مرتكزات ذات أهمية كبرى، أولها: توسيع مجالات التثقيف الإسلامي ليتجاوز الوعظ والإرشاد المتعلق بالعبادات ليشمل الحقوق والأخلاق والمعاملات والكثير من المجالات، وثانياً: إحضار مبادئ الدستور الإسلامي (القرآن الكريم) في تفاصيل الحياة السياسية؛ لأن القرآن رائد في فرض قيم الحكم الرشيد، مثل العدالة والشورى والمشاركة والمساواة، وثالثاً: إتاحة الفرصة للمؤسسات الدينية لتكون لها لمسة على الفكر والخطاب السياسي.
ويشير إلى أنه من المهم في هذا المجال أن يركز الدعاة على إقناع الأمة أن الإسلام دين شامل وفيه تبيان لكل شيء، وقد تحدث القرآن الكريم عن مبادئ الحكم الرشيد تفصيلاً، ونفذها الخلفاء على أرض الواقع تنزيلاً، ولا يمكن للأمة أن تنهض حضارياً إلا باستعادة هذه القيم.