للأسرة في النظام المعرفي والتربوي الإسلامي دور كبير في بناء الفرد والمجتمع والحضارة، ولذلك اعتنت بها الشريعة الإسلامية ووضعت لها من الأحكام ما يضمن لها قيامها بأدوارها المختلفة على أكمل وجه، ومنها دورها في نقل التراث الإسلامي إلى أبناء المسلمين.
والتراث في الإسلام لا يُطلق على ميراث الآباء والأجداد فقط، بل يُطلق أيضاً على النصوص الربانية المقدسة من آيات الكتاب وأحاديث السُّنة المعتبرة، كما يُطلق على جهود علماء المسلمين في حفظها وشرحها وتطبيقها في عصورهم المختلفة، ولذلك يكتسب التراث الإسلامي قيمة معنوية وعلمية وروحية، تجعل الحفاظ عليه من أولى أولويات الأمة الخاتمة لرسالات الله تعالى إلى البشرية.
والأسرة المسلمة كما تغرس القيم وتتعهدها في نفوس أفرادها، فإنها تحرص على حسن انتمائهم لدينهم وتراثهم وأمتهم، ليكونوا من سعداء الدنيا والآخرة، امتثالاً لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم: 6).
وبقدر ما يكون للتراث وقيمه من أثر في أفراد الأسرة من حيث التربية وكمال الخُلق، يكون للأسرة دور في الحفاظ على هذا التراث ونقله إلى أبناء الأمة، لتحفظه ويحفظها.
نحاول في هذا المقال أن نسلط الضوء على أهم الأساليب التربوية العملية التي يمكن للأسرة أن تسلكها للقيام بهذا الدور الحضاري العظيم.
مكتبة الأسرة
إن وجود مكتبة في البيت تحتوي على بعض أهم المراجع التراثية، في زاوية محترمة ولطيفة، يعد من أول أسباب اهتمام أفراد الأسرة بتراث الأمة.
فلشكل المكتبة في البيت تأثير بصري كبير في ذهن أفراد الأسرة، ينبههم إلى أهميتها ويثير فضولهم للاطلاع على محتوياتها وقراءة أسماء الكتب والمؤلفين فيها، وربما امتدت أيديهم إلى تحسس موجوداتها، والسؤال عن موضوعاتها ومحتوياتها، وهذا ما يجعل مشهد المكتبة في البيت مشهداً أنيساً مألوفاً يرتبط بالتقدير والاحترام وتلبية الحاجة.
القارئ القدوة
ومع وجود المكتبة يرى الأفراد الأب القارئ الذي يستثمر فراغه في المطالعة، والأم المثقفة التي تنتهز الفرصة لقراءة كتاب أو مراجعة مسألة، فيرى الأبناء في هذا التراث بيتاً في البيت وأماناً من ملوثات الحياة، وما تقوله القدوات بأفعالها أشد تأثيراً من كثير من الكلمات.
هيا بنا نقرأ
فإذا ارتبط منظر المكتبة بجلسة أسرية، أسبوعية أو يومية، لقراءة بعض ما في هذه المكتبة من معلومات وخبرات ومناهج، فإن هذا التراث ينطبع في ذهن الأفراد بأنه سبب من أسباب المودة والرحمة داخل الأسرة، معه تنقطع الانشغالات والملهيات، ليكون الحوار اللطيف الهانئ الذي يتجاذبه الجميع حول كتاب من الكتب، أو فكرة من الأفكار.
وربما يكون مع هذه الجلسة تدريب لطيف على حب الاستكشاف والبحث وكيفية الوصول إلى المعلومة المطلوبة في الكتاب الدقيق منها، فقد يرسل الأب ولده لاستخراج تفسير آية من كتاب تفسير ابن كثير أو التحرير والتنوير، وربما طلب من ابنته شرح كيفية الوصول إلى معنى مفردة من «لسان العرب» أو «القاموس المحيط»، وقد يقيم المسابقات ويرصد لذلك الجوائز والمكافآت، حتى ترتبط كتب التراث ارتباطاً شرطياً بمعاني المتعة والفوز والجائزة والهدية.
الرأي والرأي الآخر
فإذا استمرت مثل هذه الجلسات الأسرية المعرفية في رحاب تراث الأمة المحمدية، بدأ الحوار النوعي في الاختلاف بين العلماء، في تفسير آية أو شرح حديث أو حكم مسألة فقهية، فيطلع أفراد الأسرة على آراء العلماء المختلفة، وما يستندون إليه من أقوال ومناهج، وربما ناقشوا بعضها، فتفهموا بعض هذه الأقوال، أو اعترضوا على بعضها الآخر، وقد يحارون في كثير منها، ومن هذا التنوع الجميل يعرفون أن الوصول إلى الحق قد يكون صعباً في بعض الأحكام، وقد لا يصل إليه بعض العلماء وهم معذرون عند الله تعالى ولهم أجر اجتهادهم، وعلى الرغم من تنوع آراء هؤلاء العلماء فإنهم اتفقوا على مسائل هي محل إجماع علماء الدين، وهي التي تمثل الحقائق الذي يجب أن تتبع ويدافع عنها، وتمثل جذع الإسلام العظيم الذي ندعو إليه، فإجماعهم واجب الاتباع، واختلافهم فيما اختلفوا فيه رحمة يعذر صاحبه وإن اخطأ، وللمصيب فيها أجران.
التقنية والتراث نعمة
فإذا استرسل الحوار في الأسرة كان الحديث عن التراث في الفضاء الإلكتروني المفتوح، فهذا تطبيق يستخرج الحديث النبوي الشريف من كتبه التراثية المسندة، ويخرِّجه ويحكم عليه ويشرحه، وذاك تطبيق آخر يعرب الآية الشريفة ويفسرها، ويستخرج منها الأحكام العقدية والفقهية الأخلاقية والبلاغية وغيرها، وهذه صفحة عالم، وتلك مجموعة دروس مصورة أو صوتية تشرح كتاباً تراثياً عميقاً أو تفسر متناً علمياً مشهوراً، فإذا بالفضاء المفتوح الذي ينقل الشبهات والشهوات ويغري بكثير من الملهيات إذا به يتحول إلى فرصة حقيقية لاكتساب مزيد من العلم والمعرفة، وربما صار أحد أفراد الأسرة معلماً، أو يمارس فيه لوناً من ألوان الدعوة.
إن الأسرة بما جعل الله فيها من مودة ورحمة وباستثمار بعض الوسائل التربوية لقادرة على أن تعيد صياغة الإنسان المسلم من جديد، وتنقل إليه تراث الأمة بما فيه من قيم ومعارف، ليأخذ أحسن ما فيه، ويتجاوز عن بعضه تجاوز العاقل الذي يقبل بالدليل ويرفض بالدليل.
وما يمكن أن يُقال في هذا الموضوع أكثر، ولكن مقام الكلام هنا يضيق عن الاستطراد، والعاقل تكفيه منه الإشارة.