مع انتصاف شهر رمضان، تمر أيام الشهر الفضيل، وهناك من يسابق الخيرات وينهل من خيراته وبركاته بالعبادة والطاعة والإحسان وحسن الخلق، وهناك من يتفلت منه شهر القرآن والقيام، بكثرة الطعام والنوم والسهر والخيم الشيطانية، لا يشغله سوى الزينة والفوانيس وطقوس لا أصل لها في الإسلام، دون أن يعتني بتزيين نفسه، والارتقاء بأخلاقه.
يقول د. أحمد حسين، العميد السابق لكلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر: إن الإسلام اهتم بسلامة وصلاح القلوب، والجوهر قبل المظهر، فقال الرسول ﷺ: «إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، والموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي أمر الله فيه بتلازم زينة القلب مع المظهر عند الذهاب للمساجد التي هي بيوت الله في الأرض، فقال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
وما أجمل ما جاء في الأثر عن الإمام الحسن البصري قوله: «ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قومًا خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله وكَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل».
الزينة الحقيقية في رمضان بالحرص على العبادات والطاعات
وأنهى د. حسين كلامه مؤكداً أن الزينة الحقيقية في رمضان بالحرص على العبادات وكل الطاعات بإخلاص لله سبحانه وتعالى، مع العلم أن الإسلام لا يحرم إظهار الفرح الحسي بقدوم الشهر الفضيل بغير إسراف أو تفاخر، ولكن الأهم أن يحسن الصائم تزيين سريرته وقلبه، فهذه دعوة الأنبياء والصالحين في كل العصور الذين أدركوا أن الدنيا دار ممر، والآخرة هي دار المستقر الباقي، فقال الله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 88).
الجوهر أولاً
ويحذر د. حسن كمال، أستاذ الحديث بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، من الإغراق في مظاهر الزينة الرمضانية والانشغال بالطعام والشراب وتعليق الزينة والفوانيس؛ مما يجعل المسلم يخسر الأوقات العظيمة التي تضاعف فيها الحسنات، فهو «أوكازيون» إلهي سنوي، على المسلم أن ينهل منه، وأن يهتم بالجوهر لا المظهر، وأن يصلح من علاقاته الإنسانية، وأن يكثر من الزكوات والصدقات، وأن نتأمل قول الله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).
ويحذر كمال من الذهاب إلى الإفطار أو السحور الراقص على أنغام الموسيقى في الفنادق والخيمات الرمضانية الشيطانية التي ترتكب فيها الموبقات، وتسرق وقت الطاعات من الصائمين الممتنعين عن الحلال والمفطرين على الحرام، فيكون من الصائمين الذين ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، وهؤلاء المنشغلون بزينة الدنيا في رمضان، وقد تركوا قلوبهم خربة، ليصدق عليهم قول رسول الله صلى عليه وسلم: «رغِمَ أَنفُ -خاب وخسِر- رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبل أن يُغفَرَ له، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَه أبواهُ الكِبَر فلم يُدْخِلاهُ الجنة».
تحصيل الحسنات
ويؤكد د. صلاح عاشور، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر، أن رمضان شهر الاجتهاد في العبادة منذ ظهور الإسلام، ولم يهتم المسلمون الأوائل بالانشغال بالزينة الحسية فيه، وإنما كان الهم الأكبر لهم كيفية استثماره في تحصيل الحسنات ومغفرة الذنوب، إلا أن الانشغال بزينة الفانوس الرمضاني وغيره من أشكال الزينة جاء مع سيطرة الدولة الفاطمية على مصر، حيث أراد الفاطميون خلق نوع من التواصل مع المصريين في المناسبات الدينية حتى يتقبلوهم، فكان هذا من خلال حلوى المولد النبوي، وفوانيس رمضان التي انتقلت من مصر إلى بعض الدول العربية والإسلامية.
الجوهر قبل المظهر وعلى الصائم أن يحسن تزيين سريرته وقلبه
وأوضح أن الفرح بالمناسبات الدينية أمر طيب، ولكن المشكلة عندما يزيد الأمر عن حده فينقلب إلى ضده، والفرحة الحقيقية برمضان تكون بتجديد التوبة إلى الله وصيام النهار وقيام الليل وتجنب المعاصي ما ظهر منها وما بطن، والمشاركة في العمل الخيري قدر الاستطاعة، وإذا كان هذا مطلوباً طوال العام فهو في رمضان أوجب وأهم، حيث تتضاعف الحسنات، فما أحوجنا إلى تزيين الداخل بأن نكون منارات سعادة ومساعدة للآخرين.
السعادة الحقيقية
وتؤكد د. هيام صابر، أستاذ الصحة النفسية بكلية بنات عين شمس، أن البحث عن السعادة وترجمتها إلى مظاهر للزينة أمر طيب بشرط ألا يتضمن بدعة تؤدي إلى معصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو تخالف الأعراف والعادات الحسنة، وألا تتم المبالغة فيها حتى تشغلنا على الحكمة من الصيام الذي يعد الاجتهاد فيه بالطاعات والعمل الخيري فيه أفضل وسيلة للسعادة الحقيقية التي ترضي الله ورسوله.
وأضافت أن السعادة الحقيقية أن تكون طائعاً لربك، ومفيداً لخلقه، فتعين المستضعفين ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فنبينا يدعو إلى مكارم الأخلاق بكل أنواعها ما ظهر منها وما بطن، ومن عظمة الإسلام أنه جعل الإحسان الخفي بإخلاص أفضل من الرياء والمباهاة في العمل الصالح، حتى جعل الكلمة الطيبة للسائل أفضل من التصدق عليه وإهانته، فمكارم الأخلاق والسعادة وجهان لعملة واحدة.