الرُّبَـيِّـعُ بنت مُـعَـوِّذ بن عَـفْـرَاء بن حرام الأنصاريَّـة النجاريَّة، أمها أم يزيد بنت قيس.
كانت لا تزال صبية غريرة لا تجارب لها بعد لمَّـا أشرق نور الحق في المدينة الطيبة، وما لبث أن أشرق في نفسها وسبحت في أنواره، دفعها نحوه راحة لم تكن تألفها، وحذوها حذو أبيها وأمها، بل حذو الكثرة الكاثرة من قومها التي تغشتها نفس الراحة، واندفعت نحو الحق والنور قانعة راضية.
وأحبَّ الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم حبًـا لا يُضَارَع بحبٍ آخر، وأحكمت الرغبة في الإهداء إليه صلى الله عليه وسلم قبضتها على سخاء أنفسهم، فجعلوا يتحرَّونه بهداياهم، ويؤثرونه على أنفسهم، فكان ما يأخذ صلى الله عليه وسلم منهم أحب إليهم مما يبقي لهم.
وكانت الربيع بنت معوذ تحمل هدايا أبيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس نفسًا، وما أتحفه أحد بهديَّة إلا وردَّها على أكمل وأجمل ما يكون رد الجميل، تقول رضي الله عنها: بعثني معوذ بن عفراء بصاع من رطب عليه قثاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحب القثاء، وكانت حِـلْـيَـة قد قدمت من البحرين، فأعطاني صلى الله عليه وسلم ملء كفى حُليَّـا أو ذهبًـا، وقال: «تحلي بهذا».
وفي يوم «بدر»، تراءى الجمعان، جمع الله وجمع الشيطان، وكان أبو جهل يقطع الأرض أمام جيشه على صهوة جَوَادِهِ الذنوب(1)، وقد انتفخ سحره(2)، وبدا ضخمًا عملاقًـا، حتى قال أحد المشركين مزهوًا بأبي جهل: أبو الحكم لا يَخْلُص إليه.
وحطت «بدر» أوزارها وأعلنت نتائجها أن معوَّذ بن عفراء لم يَـنْفَسُ(3) على الله بنفسه وبذلها فيه قريرًا وصعد في موكب الشهداء، يومذاك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ينظر ماذا صنع أبو جهل؟»، فقال عبدالله بن مسعود: أنا يا رسول الله.
فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: فقتلته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قتلت أبا جهل، فقال: «آلله الذي لا إله إلَّا هو؟»، فاستحلفني ثلاث مرات، ثم قام معي إليهم فدعا عليهم(4).
وفي رواية: إن الذي قتل أبا جهل مع معاذ بن عمرو بن الجموح هو معاذ بن عفراء وليس معوذ بن عفراء، ويجوز أن يكون الاثنان قد شاركا معاذاً بن عمرو بن الجموح في قتله.
قال ابن عبدالبر في معوذ: كان ممن قتل أبا جهل ثم قاتل بعد ذلك حتى استشهد.
وقال ابن إسحاق في السيرة: قال معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه: سمعت القوم وأبو جهل مثل الحرجة(5) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلمَّا أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلمَّـا آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها، ثم مرَّ بأبي جهل وهو عقير(6) معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل.
وبعد يوم «بدر» أقبلت الربيع بنت معوذ على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دعوته، لكأنها قرت على قرار ألَّا يفوتها منها خير، فجعلت تجاهد في سبيل الله راغبة حريصة، وتشهد معه صلى الله عليه وسلم غزواته، ومشاهده كلما ألفت إلى شهودها سبيلاً، تقول رضي الله عنها: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسقى القوم ونخدمهم، ونردُّ القتلى والجرحى إلى المدينة(7).
وفي بيعة الرضوان، كانت رضي الله عنها هناك تحت الشجرة تبايع النبي صلى الله عليه وسلم مع المبايعين والمبايعات، فظفرت أمجد الظفر، وغنمت أنبل الغنم لما بشرت برضوان الله تعالى مع المؤمنين في ذاك اليوم الأغر؛ (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (الفتح 18).
وعاشت بلا ريب تردد تلكم البشرى الربانية الميمونة في خلدها ترديدًا متصلاً.
وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الرُّبَيِّع وآلها، يتعدهم بالزيارة، والسؤال، والصلة، وهيأ لها القرب منه صلى الله عليه وسلم تلقى الكثير من العلم عنه، وكان كبار الصحابة يسألونها فيما رأته منه، وتلقته عنه صلى الله عليه وسلم.
سألها عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، فقالت رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا، فيقول: «اسكبي لي وضوءًا»(8).
وذكرت وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: فغسل كفيه ثلاثاً، ووضأ وجهه ثلاثاً، ومضمض واستنشق مرة، ووضأ يده ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين يبدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثًـا ثلاثًـا.
ثم إن الرُّبَيِّع كانت تختلف إلى عائشة رضي الله عنهما، متطلعة إلى أخذ العلم عنها قدر ما تتيح لها استطاعتها.
ولما تزوجت الرُّبَيِّع زارها النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسها مهنئًـا، ومُدْخِلًا السرور على نفسها الحساسة، ومكرمًا لأهلها، ضاربًـا أروع المثل في الوفاء لأصحابه لا سيما الشهداء منهم، قال خالد بن ذَكْوَان: دخلنا على الرُّبَيِّع بنت مُعَوَّذ فقالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عرسي، فقعد على موضع فراشي هذا وعندنا جاريتان تضربان بدف، وتندبان آبائي الذين قتلوا في «بدر»، وقالتا فيما تقولان: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال صلى الله عليه وسلم: «أمَّـا هذا فلا تقولاه»(9)، أو قال: «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين»(10).
أنكر صلى الله عليه وسلم عليهما وصفهما له بعلم الغيب، لأنها صفة من صفات الله عز وجل، قال تعالى: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل: 65)، وما كان صلى الله عليه وسلم يخبر بغيب، إلَّا ما أطلعه الله عليه، قال سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (الجن).
سؤال سوف يروعك، كما روع الرُّبَيِّع بنت مُعَوَّذ حين سُئِلَتْهُ، سؤال ما تستشعره إلَّا وتستشعر معه من الغيظ المرير ما يكفي لإصابتك بالكمد، وإليك الحدث الذي ينتظم السؤال.
كانت أسماء بنت مخربة تبيع العطر بالمدينة وهي أم عياش وعبدالله ابني أبي ربيعة المخزومين، فدخلت أسماء هذه على الرُّبَيِّع ومعها عطرها في نسوة، فسألتها فانتسبت(11) فقالت لها أسماء: أنت بنت قاتل سيده؟! تعني أبا جهل.
بيد أن الرُّبَيِّعَ كانت شديدة الاعتزاز بنفسها ونسبها، وارتجت نفسها الأبيَّة لسؤال بنت مخربة، فكيف يكون أبوها الصورة الرائعة للفرع الأزهر الكريم الذي نبت في دوحة زاهية زاكية، عبدًا لأبي جهل الذي كان مع الجهل وكان الجهل معه يدور؟!
كيف يكون أبوها الذي بذل نفسه في «بدر» بذل السماح، وَزُفَّ إلى ربه عزَّ وجلَّ شهيدًا مجيدًا عبدًا لأبي جهل الذي ارتجت الدنيا مسرورة لرحيله عنها، وارتجت جهنم محبورة لِـوُرودِهِ إليها؟!
فأجابتها في لهجة حادة تتضوع منها طيوب العزة والشرف: بل أنا ابنة قاتل عبده.
فقالت أسماء بنت مخربة مغيظة: حرام عليَّ أن أبيعكِ من عطري شيئًـا.
فردت الربيع وما زالت لهجتها بين حدتها وعزتها: بل حرام عليَّ أن أشتري منه شيئًـا، فما رأيت لعطر نتنًـا غير عطرك.
قالت الربيع: ثم قمت، وإنَّما قلت ذلك لأغيظها.
وصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وألمَّتْ(12) بنفس الربيع فنون من مرارة الحزن، وأنواع وجعه.
ومرَّت الأيام بها وكرَّت السنون، وطفق الشوق يعمدها إلى أيام الحبيب صلى الله عليه وسلم ويقصدها قصدها(13) لكأنها تعيش في زمنه، ولا تشعر بحركة الأيام، أيام كانت الأرض تَشْرُف بوطئه صلى الله عليه وسلم لها، وكان بقاؤه في نفسها وعالمها جليًا لا يعادله جلاء غيره، وربما دلل على هاتيك المعاني وصفها له صلى الله عليه وسلم لما سئلت عن وصفه، وكان وصفًا مجسدًا لأثره الملموس على الأرض، ومبيناً لفعله في الدنيا، قال لها أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت رضي الله عنها: «يا بني، لو رأيته لرأيت الشمس طالعة»(14).
جاء في الأثر: «خير الكلام ما قلَّ ودلَّ»، ولا يقدر على خير الكلام الدال على المعنى رغم قلته إلَّا ذوو الفصاحة والبيان، وأصحاب البلاغة، وحسن المقال، وقيل: «أفضل القول ما يُعبَّر عن معني كثير بوجيز الألفاظ».
وهنا، لا يملك المرء إلَّا الوقوف طويلًا أمام عبارتها معجبًا ببلاغتها، متعجبًا من بيانها، مأخوذًا من قوة دَلِّهَا(15) مع قلة كلماتها: يا بني لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وكأننا بها وقد قالت قولها، وشرد بها ذهنها عاجًلا إلى أيامه الشريفة صلى الله عليه وسلم فبدت مزدهرة كعهدها بها، واحتلت دموعها مكانها في مقلتيها، وراحت تنساب في هدوء، وتُـنَـفَّس جهدها عن فؤادها التواق إليه صلى الله عليه وسلم.
وبين العبادة وطلب العلم طفقت الرُّبَيِّعُ تُـزْجي(16) أوقاتها، وأيامها ضاربة مثالًا رائعًا للمرأة العالمة، التي يُـقدَّرُها المسلمون قدْرُها، ويكبرون علمها، فكان عدد كبير من الصحابة والتابعين يأخذون عنها ما تعرفه من أحكام الشريعة، لما عرفوه من مكانتها عند النبي صلى الله عليه وسلم وصحبتها له، وكذا ترددها على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأخذها من علمها وأدبها، حتى غدت من راويات الحديث الشريف.
حيث روت عدة أحاديث، ولها في الصحيحين حديثًا اتفق عليه الشيخان، وروى عنها عدد كبير من أهل المدينة، قال الإمام الذهبي: حدث عنها: أبو سلمة بن عبدالرحمن، وسليمان بن يسار، وعبادة بن الوليد بن عبادة، وعمرو بن شعيب، وخالد بن ذكوان، وعبدالله بن محمد بن عقيل، وآخرون.
أجل، ظلت السيدة على حال تتضوع منه طيوب العبادة، وأريج العلم، ولمَّا دخلت الدنيا في العام الخامس والأربعين في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقيل: بل في خلافة عبدالملك بن مروان، هبطت شمس العمر خلف الأفق، وفي ترفق وأناة راحت تهتف بالرُبَيِّع أغاريد ملائكية، أما بشَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة مع المبايعين والمبايعات يوم الحديبية، وبقيت أصداء بشارته: «لا يدخل النار من أصحاب الشجرة أحد..»(17)، تتردد في أجواء عوالمهم، مُخَلِّفة عطرها، وشذاها؟
أجل، وستبقى الرُبَيِّعُ بنت مُعَوِّذ ماثلة بين شخوص التاريخ الإسلامي العظيم، ولن يغضّ طرفه عن كلماتها في وصفه صلى الله عليه وسلم، سيظل يرنو إلى ذكراها، حامدًا بلاغتها التي لا يحوزها إلَّا من دأب على غسل فكره، وصقل ذهنه من روافد الأدب والدين(18).
______________________
(1) الذيل، والجواد الذنوب هو كثيف شعر الذيل.
(2) الرئة، والمقصود انتفخ صدره غرورًا.
(3) يضن ويبخل.
(4) حديث صحيح: أخرجه البخاري (3962) واللفظ له، ومسلم (1800).
(5) الشجر الملتف، أو شجرة لا يوصل إليها، وشبه رماح المشركين التي كانت حول أبى جهل لتحفظه بالشجرة الملتفة.
(6) راقد لا يستطيع أن يتحرك.
(7) حديث صحيح: أخرجه البخاري (5355).
(8) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (126)، والترمذي (33)، وصححه الألباني.
(9) حديث صحيح. أخرجه ابن سعد (8/ 447)، والبخاري (1859).
(10) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3779)، والترمذي (1090).
(11) سألتها عن اسمها فانتسبت لأبيها قائلة: الرُّبَيِّع بنت مُعَـوِّذ بن عَفْرَاء.
(12) نزلت.
(13) يتجه بها نحوها.
(14) دلائل النبوة للبيهقي (1/ 200).
(15) ما تدل عليه من معنى.
(16) تدفع وتُمْضي.
(17) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2496).
(18) سيرة ابن هشام (2/ 463)، الإصابة (8180) (11172)، الاستيعاب (2502) (3382)، المجد (430)، أسد الغابة (6918)، سير أعلام النبلاء الذهبي (19813)، نساء مبشرات بالجنة، ص 120.