تطلق العادات الحضارية على الأشكال السلوكية الإيجابية التي يفعلها الإنسان، كلما تكرر وضعه في مواقف معينة، حتى تصبح سلوكاً دائماً له.
ويسهم شهر رمضان في إكساب الصائمين عدداً من العادات الحضارية التي تبني الفرد والمجتمع بناءً سليماً، يقود إلى النهوض والرقي في كافة جوانب الحياة، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: تحديد الأهداف:
فلا يمكن للبناء الحضاري أن يقوم أو يستمر إلا بالتحديد الدقيق للأهداف التي يسعى إليها، ويُشترط لهذه الأهداف أن تكون واضحة وواقعية ومقيدة بوقت معين وقابلة للتحقيق والقياس.
والناظر في رمضان يجد أنه يسهم في تحقيق هذا العنصر من خلال ركن النية في الصيام، فلا صيام إلا بنية، ولا بد أن تكون هذه النية واضحة ومحددة ومقيدة بوقت معين، وأن تكون خالصة لوجه الله تعالى، حيث قال عز وجل: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة: 5).
ويمكن للمسلم أن يكتسب هذه العادة الحضارية من خلال التحديد الدقيق والواضح للأعمال التي يريد القيام بها، والتركيز نحوها بإخلاص شديد، حتى يقوم بتحقيقها.
ثانياً: التخطيط الدائم:
العشوائية مرفوضة في العمل الحضاري، ولا يمكن لمن يترك الأمور دون تدبير أو تخطيط أن يحقق الأهداف التي يسعى إليها.
ولهذا كان الصيام وسيلة لكسب هذه العادة الحضارية، وهي عادة التخطيط، حيث إن المسلم يخطط لصومه قبل أن يبدأ فيه، فيرسم تصوراً عن العبادات التي يقوم بها والوسائل التي تساعده في تحقيقها، فإذا بدأ في اكتساب عادة التخطيط من خلال الصيام فإنه يسعى لتعميمها في كل جوانب حياته، فيخطط لعباداته، كما يخطط لمعاملاته وعلاقاته الخاصة والعامة.
ثالثاً: الانضباط في التنفيذ:
السلوك الحضاري يتسم بالانضباط الدائم، حيث يتحكم الإنسان في أقواله وأفعاله ويسيطر على رغباته وحاجاته، بحيث تأتي أعماله محكمة ومكتملة.
ويسهم الصيام في اكتساب هذه العادة من خلال الانضباط الكامل في كل جوانبه، فالصائم يتحكم في أقواله، بحيث لا يقول إلا الحق، وإلا فقَدَ ثوابه، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بِهِ، فليسَ للَّهِ حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ»، ففي الحديث تحذير من القول غير المنضبط، وليس الأمر مقتصراً على القول؛ بل إنه يمتد إلى السلوك، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».
كما يظهر انضباط الصائم في تنفيذ صيامه على الوجه الأكمل من خلال مراقبة الله تعالى وعدم الاحتيال أو الخداع في وقت الصيام أو الأعمال المحددة فيه، فالصائم قد يخلو وينفرد عن الناس، ويمكن له في هذه الخلوة أن يأكل أو يشرب، لكنه يمتنع عن ذلك، لعلمه أن الله يراه، حيث قال عز وجل: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الحديد: 4)، وقال عز وجل: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ (طه: 7).
وإن المسلم ليكتسب هذه العادة الحضارية من خلال تعزيز قيمة الانضباط في حياته، سواء كان هذا الانضباط في المواعيد أو في الأعمال أو في غيرها من جوانب الحياة المختلفة.
رابعاً: المشاركة والتعاون:
العمل الحضاري لا يقوم على الفردية والأنانية، وإنما يرتكز على الجماعية والتعاونية، وقد أمر الله تعالى بالتعاون، فقال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 2).
ويسهم رمضان في بناء عادة المشاركة والتعاون من خلال المظهر الجماعي للصوم، فالمسلمون جميعاً يصومون في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، ومن شذ عن ذلك كان له من الوعيد ما يزجره، فقد روى أبو داود عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر».
كما يتعاون الصائمون في تهيئة الأجواء لتحصيل الأجر والثواب، فيعين بعضهم بعضاً على قراءة القرآن وصلاة القيام والإكثار من الصدقات وغيرها من الأعمال التعاونية.
ويمكن للمسلم أن يكتسب هذه العادة الحضارية ويعممها في حياته الأسرية والمجتمعية والعملية، فيتعاون مع أهله ومجتمعه، ويعين غيره في عمله، مستحضراً توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه» (صحيح مسلم).
خامساً: الصبر والتحمل:
الامتناع عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أمر شاق على النفس الإنسانية، لكن هذا الامتناع يغرس في الإنسان معاني الصبر والتحمل، وهي ضرورية في البناء الحضاري الذي يقوم على الإرادة والعزيمة القوية.
ويمكن للمسلم أن يستثمر هذه العادة الحضارية في التقليل من الشهوات في حياته كلها، حتى يستطيع أن يتحكم في نفسه، ويتحمل الشدائد والصعوبات من أجل تحقيق المقاصد والغايات.
سادساً: تكرار المحاولات وعدم اليأس:
يتعلم المسلم من الصيام أن الخطأ أو النسيان ليس معناه الفشل أو الإخفاق، فالصائم قد ينسى فيأكل أو يشرب، وهذا لا يعني أن صومه أصبح باطلاً، بل عليه أن يتم صومه، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نسِي وهو صائمٌ فأكل وشرب فليتمَّ صومَه، فإنَّما أطعمه اللهُ وسقاه».
سابعاً: التضحية والعطاء:
الصيام يغرس في نفوس الصائمين معاني التضحية من خلال التخلي عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والتخلي عن قول الزور والفحش، بل والتنازل عن بعض الحقوق الشخصية، كمن تعرض للسب أو الشتم، فعليه أن يلتزم بعدم الرد، بل يقول: «إني صائم».
كما يغرس الصيام في نفوس الناس معنى العطاء من خلال الإنفاق الدائم على الفقراء والمحتاجين، ففي صحيح البخاري عن عبد بن عباس، قال: «كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
ويستمر العطاء من خلال الدعوة إلى تفطير الصائمين، ففي سنن الترمذي عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقصُ من أجر الصائمِ شيئًا».
ويمكن للمسلم أن يكتسب هذه الصفات والمعاني الرائعة من خلال المداومة على الصدقات والتحلي بصفات الكرم والبذل والعطاء في حياته كلها.
ثامناً: الشعور بالآخرين:
الغني حين يصوم يشعر بألم الجوع الذي يعيش فيه الفقير، فتتهذب نفسه، ويسعى دائماً لمعاونته، ولهذا كان الصيام وسيلة لتنمية المشاعر النبيلة، وتقوية الأحاسيس الاجتماعية الكريمة.
ويمكن للمسلم أن يكتسب هذه العادة من خلال الصيام في غير رمضان، كالإثنين والخميس والأيام القمرية من كل شهر، وغيرها، حتى يستمر في تهذيب نفسه وتنمية شعوره بغيره.
تاسعاً: التسامح والعفو والتواصل الإيجابي:
في رمضان يحرص المسلم على مغفرة ذنوبه، لكنه يعلم أن الخصام والشحناء تقف عقبة أمام تحقيق هذه المغفرة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الإثْنَيْنِ، ويَومَ الخَمِيسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا»، ولهذا فإن الصائم يحرص على إنهاء الخصومات وقطع النزاعات بينه وبين الناس، حتى ينعم بمغفرة الله له.
فإذا تخلى عن الخصام والشحناء؛ فإنه يفوز بالراحة لنفسه والسعادة لقلبه والمغفرة لذنوبه، وعليه أن يستمر على ذلك طيلة حياته، حتى ينعم بسعادة الدنيا والآخرة.
عاشراً: الاجتهاد حتى النهاية:
إن بعض الناس لا يستمر في أعماله الصالحة التي يقوم بها، حيث ينشط في البدايات ويتكاسل في النهايات، وإن رمضان يعلمنا أن نجتهد حتى النهاية، وألا نستسلم للكسل أو الخمول، وبخاصة في النهايات، ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْر الأَواخر مِن رمضانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ»، وفي هذا دعوة إلى الاستمرار على الطاعة والزيادة عليه، لا التخلي عنها أو التهاون فيها.
وإن المسلم حين يكتسب هذه العادة يصبح متمسكاً بنجاحه واستمراره مهما حدثته نفسه بالخمول أو واجهته الحياة بالمصاعب، لأنه تدرب في مدرسة الصيام على الصبر والمداومة والاجتهاد حتى يصل إلى غايته.