أيها الصائم أتسمع؟ هذا يسبّك سبًا قبيحًا في نفسك، وأهلك، وعرضك، وها هو لسانك يتلمَّظ غيظًا، وهو يستقبل من عقلك إشارات غاضبة تترجم غضبك إلى أقبح الألفاظ للردِّ عليه، وإيقاع أقصى وأقسى صور الإهانة به.
أيها الصائم أترى؟ هذا يهمّ بك لقتالك، ويتوثب عليك ظلمًا وجورًا، وها هي نفسك تستقبل من عقلك إشارات غاضبة تدفعك بقوة مُـزَيِّـنَة لك قتاله، والإسراف في البطش به.. هل هممت لإهانة هذا، وتأهبت للبطش بذاك؟
انتظر ألست مسلماً؟ ألست صائماً؟ إذًا اخلع على نفسك أبدع وأبهى حلل الأدب، وأزهى وأزهر صور الإنصات، إن حبيبك صلى الله عليه وسلم يُحَدِثك أنت، ينصحك: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ ولَا يَـصْخَـبْ، فإن سَابَّـهُ أحد أو قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»(1).
تتعجل أولًا لمعرفة معنى «جُـنَّة»؟ لا تعجل إنه صلى الله عليه وسلم يوضح لك معناها، وهو يؤكد نصيحتك في موضع آخر «الصِّيامُ جُنَّةٌ من النَّار كجُنَّةِ أحدكم من القِتال»(2)؛ يعني صلى الله عليه وسلم أن الصيام ستر ووقاية كالدرع التي تقي المقاتل من القتل أثناء القتال، والمقصود يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، أليس الرفث الذي يعني الفحش من الكلام، والصخب الذي يعنى الصياح والخصام من شهوات النفس المؤذية؟ إن حبيبك يوصيك في هاتين الحالتين أن تقول بلسانك: «إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»؛ ليكفَّ خصمك عنك، أو تستشعر أنت هذا المعنى بقلبك الحساس فتكفَّ عن خصمك(3).
انتصح لحبيبك، إنه صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أن الغضب نار توقد في القلوب يغلي الدم من أثرها ويفور، فمن حَلُمَ وكظمها نجح في إطفائها، ومن أطلقها كان أول مُحْتَرِقٍ بها، وأن الغضب هالِكٌ لصاحبه، ومظهِرٌ لمعايبه، فاشعر بوقع تعاليمه الشريفة وهي تمسح عيوب نفسك، تعاليمه التي تسير آبهة بالجميع حتى المتخاذلين عنها، والخارجين عليها، وهي تتردد فوق آفاق دنيانا، وأركان ديارنا: لا تجعلوا أقوالكم وأفعالكم جسورًا تعبرون عليها إلى جهنم.
وأنت من أهل وأحباب تعاليمه الشريفة، فهل تريد أن تتخاذل عنها، أو تخرج عليها؟ هل ترفض أهليتك ومحبتك لنصائح حبيبك صلى الله عليه وسلم؟
لا.. لا.. عليك أن تشعر بانتمائك لها وهي تنحدر في نفسك كالسيل المتسارع، إن تركك لرَكْبِ السائرين عليها، وبها وإليها لا يضرّ غيرك، أمَّا لزومك لسير وسيرة هذا الرَّكْب فهو محض فضل عليك من الله عز وجل، ثم من حبيبك صلى الله عليه وسلم، ولأنه حبيبك فهو يُحدِّد لك بوصلتك الأخلاقية التي تجعل معنى مستقبل آخرتك ملء عقلك وقلبك، وكذا ملء تعاملاتك، فاجتهد لتجعل نصائحه الشريفة تذوب في تعاملاتك، وهي رغم ذوبانها فيها تبدو جليَّة على وجهها، فلا مفرّ من خسران العقول التي لا تفهمها، وفساد القلوب التي لا تشعرها، وعمى العيون التي لا تراها.
انتظر، ما زالت نصيحته الشريفة تعنيك، لكأنها تزيدك، فاستمع : إنَّ القرار المهم يُتخذ في الأوقات المماثلة له في الأهمية، وإن أقدر الناس على فعل الصواب الذي لا يغضب، فلا تفكر بغضب فتخسر، فربما كلمة واحدة، أو حركة واحدة قد تُخسرك الكثير من الأمور التي تتمناها على الله وتأملها منه، وأنك بالصبر أو بالتصبر، بالحلم أو بالتَّحَلُّم تَعْثُر على نفسك المسلمة التي تستمد قوتها من دعوته الشريفة التي تحيا داخلك، التي لا يملكها أحد غيرك كمسلم، والتي تستهدف روحك وتُعَلِمك كيف تتنفس بلا غضب، وتتجاوز أمورك بشكل منصف، وحتى لئن تجاوزت أمورك بشكل أوقع عليك شيئًا من جور، أو جعلك تتنفس بشيء من غضب فلا بأس فأنت لا تطلب الشيء السهل، أغمض عينيك وأبصر نهاية الطريق، أنت تبني جنة عرضها السماوات والأرض، فالحقائق كالشمس لا تختفي، وأبدًا لا يؤسس لهذا البناء إلَّا بمحاسن الأخلاق.
أمضِ وصية حبيبك واجعلها ماثلة على كل أحداث أيامك، وليس في رمضان فحسب، استعارة من الآية الكريمة: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) (الفرقان: 63)؛ أي يمشون بالحلم والسكينة والوقار، غير متكبرين ولا متجبرين، وإذا خاطبهم الجاهلون بما يكرهونه من القول؛ أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب(4).
وكذا استعارة من وصيته صلى الله عليه وسلم للصحابيّ الذي قال له: يا رسول الله، أوصني، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب»، فردَّد الرجل مرارًا، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب»(5)، وقيل في شرح الحديث بـ«فتح الباري»: الغَضَبُ غَريزةٌ رَكَّبَها اللهُ في طَبيعةِ الإنسانِ، وهو: تَغيُّرٌ يَحصُلُ عِندَ فَوَرانِ دَمِ القَلبِ؛ لِيَحصُلَ عنه التَّشَفِّي في الصَّدرِ، والنَّاسُ مُتَفاوِتونَ في مَبدَئِه وأثَرِه؛ ومِن ثَمَّ كان منه ما هو مَحمودٌ، وما هو مَذمومٌ؛ فمَن كان غَضَبُه في الحَقِّ، ولا يَجُرُّه لِمَا يُفسِدُ عليه دِينَه ودُنياه، فهو غَضَبٌ مَحمودٌ، ومَن كان غَضوبًا في الباطِلِ، أو لا يَستَطيعُ التَّحكُّمَ في غَضَبِه إذا غَضِبَ، ويَجُرُّه الغَضَبُ لِتَجاوُزِ الحَدِّ، وإفسادِ دِينِه ودُنياهُ؛ فهذا غَضَبٌ مَذمومٌ.
ودائما ما يكشف الله لحبيبه الحجب، فيتحكم الطب النبوي الشريف في السياق هنا شفقة عليك من الأمراض التي تأتي صنيعة كثرة الغضب، ومنها: أمراض القلب لما يسببه الغضب من فوران الدم في القلوب، والذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع ضغط الدم، والذي يؤدي كذلك إلى الصداع، والاضطرابات أثناء النوم، والكثير من مشكلات الجهاز التنفسي، وفي الأخير ربما تؤدي هذه الخلطة المرضية إلى السكتة الدماغية، وتؤثر على الجلد الذي يزيد ويعجل من فرص ظهور التجاعيد المبكرة.
وقد توافق الطب الحديث مع نصائح الحبيب صلى الله عليه وسلم في أن أفضل الطرق في الحفاظ على صحتك هي السيطرة على الغضب، ومما يعينك بقوة على ذلك هو تقبُّل مشاعر الغضب وكأنها جزء لا يتجزأ من أحداث حياتك ولن تنجح في أمرك هذا إلَّا بالتَصبُّر والتَحلُّم كما نصحك حبيبك صلى الله عليه وسلم.
كما أن هناك أموراً أخرى تعينك على النجاح في أمرك، وبالتأمل فيها سيتبدى لك أنها بمثابة نصائح للحبيب صلى الله عليه وسلم في مواضع أخرى، ولولا أن يمتد بنا المقام، والمقال لأقمنا الأدلة الشريفة على كل منها، مثل: الابتعاد عن المكان الذي حدث فيه موقف الغضب، غسل وجهك ويديك ورأسك بالماء البارد (الوضوء)، ممارسة بعض الأنشطة الجسدية كالركض والتمارين الرياضية الخفيفة، معرفة السبب الأساسي للغضب، فهذا من شأنه تيسير إستراتيجيات التعامل معه، الاسترخاء والتأمل، التحدُّث مع أحد تحبه وتستطيع أن تنفس عن المشاعر السلبية معه، وهل هناك أحد أحب إليك من الله عز وجل، تصفّ قدميك بين يديه، وتشكو له في سجودك بثك وحزنك.
__________________________
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري (1904)، ومسلم بنحوه (1151).
(2) حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1336)، والسيوطي في الجامع الصغير (5175).
(3) قيل في شرح الحديث بـ«فتح الباري»: المراد بالنهي عن ذلك تأكيده حالة الصوم، وإلَّا فغير الصائم منهي عن ذلك أيضاً.
(4) من تفسير الطبري للآية.
(5) حديث صحيح، أخرجه البخاري (6116).