رمضان مدرسة إيمانية، يترقى فيها العبد بين درجات الإيمان على قدر مدارسته فيها، وأثر تلك المدارسة تتجاوز النفس لتصب الخير على ما حولها.
ولما كان أهل بيت المرء هم أولى الناس ببره وجوده، وكان أعلى درجات البر هو السعي لنجاتهم في الآخرة بتزكية نفوسهم وبغرس أسس الإيمان ومعانيه وإرشادهم إلى الطاعات؛ وجب التنبه إلى أهمية استغلال رمضان في التربية الإيمانية للأبناء، فكانت هذه الكلمات.
لماذا تزداد أهمية التربية الإيمانية في رمضان؟
لا بد للآباء أن ينشغلوا بتربية أبنائهم إيمانيًا منذ لحظة ميلادهم، وقد وجبت تلك المسؤولية على الأبوين حصرًا، فعن أبي هريرة قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ» (رواه البخاري، 1358)، فتعين عليهم استغلال الفرص وفاضل الأوقات في تحقيق هذا الهدف، ولا أنسب في الأوقات الفاضلة من رمضان، لما فيه من مزيد معايشة للمعاني الإيمانية، واجتماع عموم المسلمين على الطاعات والتواصي بها، وتجلي المعاني المجردة في صورة سلوكية أمام الأبناء؛ مثل الاستسلام لله ومحبته، واستعداد النفوس وتهيئتها للعبادات تأثرًا بروحانيات هذا الشهر الكريم، ورؤيتهم لمظاهر العبادات الجماعية فيه؛ كالصيام وصلاة التراويح وغيرها، والإكثار من الحسنات فيه أكثر من غيره.
ولأجل أن عبادات رمضان -وأعظمها الصيام- ثمرتها التقوى؛ فوجب التنبه إلى الاعتناء بعبادات القلوب تمامًا؛ مثل عبادات الجوارح؛ كتعليم مفهوم التوحيد والإخلاص، قال الله عز وجل حاكيًا عن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وقت بنائهما بيت الله الحرام: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128)، فاستسلام الجوارح فرع عن استسلام القلب، ومن دونه يصبح عمل الجوارح بلا قيمة، كما هي حال المنافقين الذين عملوا ظاهرًا ولم يدخل الإسلام لله وتوحيده في قلوبهم.
أهم المعاني الإيمانية التي يمكن غرسها في نفوس الأبناء في رمضان
كثيرة هي المعاني التي يُستطاع استغلال رمضان في ترسيخها عند الأبناء، ومنها:
1- التوحيد: ففي رمضان فرص عظيمة لغرس التوحيد فيهم، فيتعلم الابن أنه لا إله إلا الله، ولا متصرف في هذا الكون إلا الله، وذلك من خلال عبادة الدعاء للصائم، فيعرف الدعاء المستجاب، ومواطنه، والأوقات الفاضلة لإجابته، ويعلم أنه لا قاضي لحاجات العباد ولا هادي لهم إلا الله.
2- التقوى: فيتعلم الابن معنى أنه مستسلم لله فيما أمر ظاهرًا وباطنًا، حتى إنه ليترك الطعام والشراب في وقت معين فقط لامتثال أمر الله واجتناب غضبه، ويفهم ممن يرى حوله تعظيم هذا الشهر عن طريق رغبتهم بألا يخدش الصيامَ شيءٌ مما نهي الله عنه.
3- فضل القرآن: فيصله ذلك من حرص من حوله على صحبة القرآن في رمضان، وتفهم معانيه، وأثره على أخلاقهم وسلوكهم، فيتخلقون بخلقه ويعظمون أوامره.
4- معرفة أسماء الله وصفاته: فيتعلم من أسماء الله اسم «الرحيم»، الذي جعل رمضان فرصة لزيادة الحسنات والعتق من النار، واسم «الغفور» الذي جعل رمضان إلى رمضان مكفرًا للذنوب، واسم «الكريم» الذي لا يرد من دعاه حتى يستجيب له أو يثيبه عليه أو يصرف عنه مكروهًا بقدره.
5- الولاء للمسلمين: فمن خلال رؤية الابن الاهتمام بإطعام الصائمين أو الصدقة عليهم يتعلم التراحم بين المسلمين، ومن رؤيته لاجتماعهم في أوقات الصلوات والإفطار والتراويح يفهم أنهم لُحمة واحدة لا يمكن أن تفصل بينهم بحال.
رمضان.. وتربية العادات الصالحة
لقد أرسى الإسلام مقصد تزكية النفوس حتى جعله من أسباب إرسال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2)، وهي ما تظهر في اكتساب العبد للصفات الصالحة والعادات الحسنة، ولا شك بأنها ستكون أكثر رسوخًا إذا غُرست في الأبناء منذ الصغر، ومن أمثلتها التي يمكن تثبيتها عند الأبناء في رمضان:
1- التعاون: فعندما يرى الابن تعاون أفراد أسرته ووضع مهمات مناسبة لكل عمر فيها وقدرات كل واحد منهم؛ فإنه يبني في نفسه أهمية التعاون وتكامل الجهود.
2- تنظيم الوقت: يمكن إيصال أهمية استغلال الوقت إلى الابن من خلال رؤيته حرص والديه على وقتهما في رمضان، وتعريفه بسؤال الله العبدَ يوم القيامة عن عمره فيم أفناه؟ ومن ثم تدريبه على وضع جدول للعبادات والأنشطة النافعة.
3- التغذية الصحية: فرمضان فرصة لتعديل النظام الغذائي للأسرة، فمن امتلك الإرادة لترك الطعام سيسهل عليه ترك بعض الأطعمة الضارة لحفظ صحته وصحة أبنائه.
ما يُضعف ما سبق
وكعادة كل شيء في الحياة؛ فإن كل حال أو صفة لها ما يقويها ولها ما يضعفها، فكما أن هناك أفعالاً للآباء ترسخ الإيمان في نفوس الأبناء، فإن هناك أفعالاً تضره، مثل:
1- الشكوى: فكثرة شكوى الآباء عن صعوبة الصيام وإبداء عدم تحمله يُوصل للأبناء معنى فاسدًا بأن الله يكلف بما لا يُطاق، وهذا يُضعف محبة الابن لله واستسلامه له ولما شرع من تكاليف.
2- العصبية وسرعة الغضب: فحصولهما في وقت الصيام خاصة أو زيادتهما عن المعدل العادي يغرس في الابن أن يرتبط شهر رمضان عنده بمشاعر سلبية بدلاً من مشاعر الشوق إليه والمحبة له.
3- تضيع الأوقات: فتضييع أغلب وقت رمضان فيما لا ينفع فضلاً عن تضييعه في المحظورات كمتابعة المسلسلات وما لا يفيد يغرس في الابن عدم تعظيم هذا الشهر الكريم، ويُوصل إليه معنى الاستسلام الظاهري دون الباطني، وهذا من أخطر ما يكون وقعًا على إيمان الأبناء.
فكما أن هناك أفعالاً لا تحصى لغرس الإيمان والإسلام في نفوس الأبناء؛ فهناك أيضًا أفعال لا تحصى تقوِّض هذا الغرس، وعلى كل أب أن يعين أبناءه بغرس أصلح العادات فيهم ليحققوا خيري الدنيا والآخرة، ولا يصبره على هذا وكُلفته إلا دافع تقوى الله في نفسه وأبنائه لكي ينجو بهم، وصدق الله العظيم في حث المؤمنين على ذلك حين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6).