كاتبة المدونة: يمينة عبدالي
يقول الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير» في قوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً {6} وَنَرَاهُ قَرِيباً) (المعارج): إنه تَعْلِيلٌ لِجُمْلَتَيْ (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) (المعارج: 1) ولِجُمْلَةِ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (المعارج: 5)؛ أيْ سَألُوا اسْتِهْزاءً؛ لِأنَّهم يَرَوْنَهُ مُحالًا وعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ؛ لِأنّا نَعْلَمُ تَحَقُّقَهُ، أيْ وأنْتَ تَثِقُ بِأنَّهُ قَرِيبٌ، أيْ مُحَقَّقُ الوُقُوعِ، وأيْضًا هو تَجْهِيلٌ لَهم إذِ اغْتَرُّوا بِما هم فِيهِ مِنَ الأمْنِ ومُسالَمَةِ العَرَبِ لَهم ومِنَ الحَياةِ النّاعِمَةِ فَرَأوُا العَذابَ المَوْعُودَ بَعِيدًا، إنْ كانَ في الدُّنْيا فَلِأمْنِهِمْ، وإنْ كانَ في الآخِرَةِ فَلِإنْكارِهِمُ البَعْثَ، والمَعْنى: وأنْتَ لا تُشْبِهُ حالَهم وذَلِكَ يُهَوِّنُ الصَّبْرَ عَلَيْكَ فَهو مِن بابِ (ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ) (المائدة: 48)، (ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ) (الكهف: 28)»(1).
وفي نفس السياق، يقول الإمام السعدي في تفسير هاتين الآيتين: «الضمير هاهنا يعود إلى البعث الذي يقع فيه عذاب السائلين بالعذاب؛ أي: إن حالهم حال المنكر له، أو الذي غلبت عليه الشقوة والسكرة، حتى تباعد جميع ما أمامه من البعث والنشور، والله يراه قريباً، لأنه رفيق حليم لا يعجل، ويعلم أنه لا بد أن يكون، وكل ما هو آت فهو قريب»(2).
فما أجمل وما أبلغ حروف القرآن وأنت تستمتع بنزوله بالترتيل والبيان ليترسخ في فؤاد المؤمن أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فكان لزوماً ترتيله وحضور الجوارح ابتغاء تعبد المولى به وإرساء ونهل ونهج العقيدة السليمة، وفهم القرآن الكريم قطعًا لا يفصل عن السُّنة ولا شراحها، كما لا يفصل عن تفاسير العلماء ودراسة البلاغة وإتقان أحكام الترتيل، فلا تلحن فيجري على لسانك الإخلال بمبنى الكلمة، ومن هنا هل حكم الترتيل هذا له علاقة بالمعنى أم لا؟ وكيف لحكم من أحكام التجويد أن يثبت فؤاد عبد بربه؟
فوقفت على أحكام الحروف وخصائصها وربطتها بمعانيها في قوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً {6} وَنَرَاهُ قَرِيباً) برواية ورش عن نافع فكانت هذه الوقفات:
الآية الأولى:
لما كانت نظرة العبد فيها قِصَرٌ واعتلال فيه إصرار على التقصير جاءت الآية بلفظ التوكيد «إنّ» وليس الحال ههنا كالذي لا يعلم فَعُلِّمَ فاهتدى؛ (لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (النور: 46).
«الراء» المفخمة توحي بالكبر عن الحقيقة وكأن الأمر محسوم يرونه بأعينهم من مقام جعلوه شِركا بربهم فتلك الرؤية فيها مشقة وثقل وكأن بهم غشاوة تجاوزت حاجب العين لتمتدّ إلى حاجب القلب والفؤاد؛ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24).
فأخذك النّفس بواو الصلة: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) زاد يقيناً أن ذلك مرجوع إلى المعنى السابق ومرتبط به كأن البعد بعدين وكأنهم من ثقتهم العمياء في تيه رؤياهم عدم قدوم الوعد أصلاً في زمنهم ولا زمن من بعدهم وكأن باب التوبة مُرجِئ إلى يوم غير معلوم فجاء لفظ «بَعِيدًا» «هُنا كِنايَةٌ عَنْ مَعْنى الإحالَةِ؛ لِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ العَذابِ المَوْعُودِ بِهِ، ولَكِنَّهم عَبَّرُوا عَنْهُ بِبَعِيدٍ تَشْكِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَكى اللَّهُ عَنْهم أنَّهم قالُوا (أإذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (ق: 3)»(3).
فالآية ككل بالتوكيد والتشديد والراء المفخمة والمد الصلة ولفظ البعد.. توحي بأن على المتمعن في الآية أن يدرك حال البأس والعمي ومن هنا نستحضر الحديث المروي عن أنس بن مالك رضي الله عنها قال: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يُكثِرُ أن يقولَ: «يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ»، فقلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، آمنَّا بِكَ وبما جئتَ بِهِ فَهل تخافُ علَينا؟ قالَ: «نعَم إنَّ القلوبَ بينَ إصبَعَينِ من أصابعِ اللَّهِ يقلِّبُها كيفَ شاءَ» (صحيح الترمذي)
الآية التالية:
وعد الله حق فلا يحتاج إلى توكيد فمن روائع البيان هنا بدء الآية بواو مجردة عن القسم أو التأكيد.
«الراء» في الآية الثانية ممالة وفيها من اليسر والسهولة وبساطة الفعل وفيها تجلية لقدرة الله العظيمة فكل أمر بيد الله هين أليس الله قادر على كل شيء؛ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (يس: 82).
لا توجد الصلة الصغرى هنا: توكيد على أن وعداً قريباً قرباً لا يحتاج إلى تقدير فتقديره بيد خالق الحياتين، مصداقاً لقوله (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) (الأحزاب: 63).
عدم وجود المد هنا مع الإمالة مع عدم التوكيد أوحى إلى النفس أن وعد الله حق يوقظ من له فطنة فيعتريك الخوف من تركيب الآية وهي ترسم مقصداً وسبيلاً مصداقه قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) (الأنبياء: 1).
والله أعلم.
_________________________
(1) محمد الطاهر بن عاشور: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ج29، ص158.
(2) عبد الرحمان السعدي: تيسير الكريم الرحمن المعروف بـتفسير السعدي، الموسوعة القرآنية، https://quranpedia.net/surah/1/70/book/3
(3) محمد الطاهر بن عاشور: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ج29، ص158.