مقدمة
التطبيع العربي الصهيوني سياسة قاصرة وضارة للقضية الفلسطينية، ولنا نحن العرب سواء على مستوى الحكومات أو الشعوب، يبرز ضرره في فرض الهيمنة الصهيوأمريكية في المنطقة وتهديد السيادة والاستقرار، وتجاوز الموقف العربي وقضاياه العادلة.
ويسعى لعزل الحكومات العربية عن شعوبها وإضعافها وإضعاف شرعيتها في المنطقة، ويضفي الشرعية على الاحتلال الصهيوني وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني.
يمثل التطبيع بأشكاله وأبعاده المتعددة تهديداً خطيراً للأسس الإسلامية والعادات والقيم الإنسانية الخالية من الانحلال، المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي التي تدعو إلى نبذ كل ما هو مخالف لشرع الله، ومن بينها وجوب عداوة اليهود وعدم مصالحتهم أو التطبيع معهم لقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: 51)، وقوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) المائدة: 82).
للأسف، لقد أضحى التطبيع مألوفاً وغير مستغرب عند بعض الأنظمة العربية التي لا يعنيها سوى الحفاظ على عروشها، حتى وإن كان الثمن فلسطين والقدس، وهذا يتطلب بث الوعي الشعبوي لكسر هذه الموجة من التطبيع، والعمل الدؤوب لتسليح الأفراد من أجل نبذ مثل هذه الأفكار الدخيلة والتشبث بالحق العربي والإسلامي المقدس في فلسطين.
تتناول هذه السلسلة العديد من المواضيع التي تبين أخطار التطبيع وأضراره على شعوب الوطن العربي وأهدافه الخبيثة الرامية لتفتيت الوطن العربي، وتعزيز الميوعة والانحطاط بين أفراد الشعوب العربية لتفريغها من محتواها، ويسهل احتلالها والسيطرة عليها، وتوضح مشاريع الصهيونية من وراء فكرة التطبيع، وتدعو إلى مناهضة هذه الفكرة ومشاريعها من قبل الشعوب أفراداً وجماعات ومؤسسات.
تشتمل هذه السلسلة على 12 موضوعاً، يتناول كل موضوع قضية معينة تتعلق بالتطبيع، وتحاول تسليط الضوء على مصالح الحكومات من وراء التطبيع، وإستراتيجية الاحتلال في فرض التطبيع على الحكومات ليكون عائقاً في وجه التحرر، وأثره على القضية الفلسطينية وعلاقته بالمبادئ والتأثير الإستراتيجي، ودوره في تكريس وفرض «صفقة القرن»، وتصفية القضية الفلسطينية، والتمهيد لإنشاء حلف صهيوني عربي لمواجهة محور المقاومة والقضاء عليها.
تطويع العرب
يفرض التطبيع نفسه كسياسة جديدة دخيلة على الوطن العربي، الذي يحاول من خلاله الصهاينة إنهاء قضية الصراع ودمج دولتهم المارقة كدولة مرغوب فيها ضمن منطقة الشرق الأوسط، لا بل فرض سيطرتها وهيمنتها على تلك المنطقة بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى، وسط رفض شعبي عارم لمثل هذه المخططات الصهيونية التي تحاول العديد من الحكومات العربية التماهي معها، دون النظر لأخطارها على المنطقة كونها تعطي الضوء الأخضر لدولة الكيان للتغلغل أكثر في المنطقة العربية وشعوبها، والسيطرة على مقدراتها، وفرض سياستها وثقافتها الشاذة لتحقيق أهداف الصهيونية الكبرى ضمن مخطط كبير للسيطرة على العرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
إن سياسة التطبيع بكل أشكالها تشكل تهديداً حقيقياً للثوابت العربية والإسلامية والهوية الوطنية، وتحد من تطور العرب في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد، لأنها تقيدهم بعلاقات لا يمكن أن تحقق لهم أي مكاسب أو أهداف، بل إنها تسعى لزعزعة الاستقرار الداخلي والتخلي عن الثوابت الوطنية، والقومية العربية، وشطب القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، والتحرر، وتطويع كل مكتسبات الشعوب العربية لصالحهم، في خضوع عربي تام لسياسات دولة الكيان وتحقيق مصالحها ومصالح حليفتها أمريكا الاستعمارية في المنطقة.
تعلم دولة الكيان أن التطبيع يشكل لها إنجازاً كبيراً وتأثيراً واسعاً لتمرير سياستها الاستعمارية، وإضعاف الأنظمة العربية بحيث تكون خاضعة لفكرة المشروع الصهيوني، والتخلي عن تبنيها للقضايا العادلة، والدفاع عن حقوق الشعوب المظلومة والمنكوبة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، كما يحقق لها سياسة إقليمية خارجية جديدة، تتعدى قضية السلام إلى تغيير معالم الجغرافيا السياسية في المنطقة لتحقيق أهدافها الاستعمارية، وتكوين محور متماهٍ مع هذه السياسة الصهيونية، وتكوين مسار لعلاقات أمنية واقتصادية لمواجهة محور الممانعة الشعبي الرافض لفكرة التطبيع والمشاركة فيها.
إن التطبيع العربي الصهيوني يشكل، للأسف، غطاء لجرائم العدو الصهيوني، ومجازره بحق الشعب الفلسطيني، ويمنحهم حقاً لتمرير مؤامراتهم الخبيثة في إنهاء القضية الفلسطينية، واستنزاف موارد الشعوب، وتمييع الأجيال من خلال فرض سياسات التحرر الفكري والثقافي، وطمس الهوية العربية ومرتكزاتها، وتهديد الثوابت، وإضفاء الشرعية على الكيان وعدم النظر إليه على أنه احتلال عنصري وجسم غريب مزروع في قلب الأمة العربية.
ولا ترى دولة الكيان في العرب وأنظمتهم سوى مشاريع لتحقيق أهدافها ورؤيتها الاستعمارية؛ لأنها تعي أنها أنظمة استبدادية قمعية، لا تضع مطالب شعوبها على سلم أولوياتها، وتعمل على منع تحرك الشعوب ضدها لمناصرة القضايا العربية العادلة، وتعمدإلى إلهائهم بقضايا داخلية، تقيد تفكيرهم وحراكهم الرافض لفكرة التطبيع مع الصهاينة واستيعابهم، وهي بذلك تكون قد حققت العديد من أهدافها؛ مما يصب في مصلحتها ومصلحة حليفتها أمريكا الهادفة لترسيخ وجودها، وزيادة تأثيرها في المنطقة، وزعزعة الاستقرار، ورفض التمسك بالثوابت العربية والإسلامية، والتخلي عن قضايا الشعوب العادلة، وتحقيق العديد من المكاسب المادية، من وراء إقامة علاقات اقتصادية وتجارية معها، دون أن تترك لهم أي هدف معنوي أو مادي لتحقيقه سوى الخضوع لها، وتحقيق مصالحها ومصالح أمريكا في المنطقة.
إن أنظمة الاستبداد العربي هي الدرع الواقية لدولة الكيان ومشروعها الصهيوني في المنطقة، ولا يمكن للتطبيع أن يكون أو يمر لولا وجود هذه الأنظمة التي تعي رفض شعوبها لمثل هذه المفاهيم الجديدة الدخيلة على العرب، فدولة الكيان تدرك تماماً أن سياستها في المنطقة لن تمر دون وجود أنظمة استبدادية تكون بحاجة إليها وإلى أمريكا لدعمها، وإسنادها، مقابل تقديم تنازلات مؤلمة تحاول تجميلها في مسميات ومصطلحات يسهل تمريرها على الشعوب، فجاء التطبيع كوسيلة تستطيع من خلاله الأنظمة حماية مكانتها، والحفاظ على سلطتها، وعدم تقويضها دون أن يكون لها أجندات تفرضها مقابل تحقيق مصالح اليهود من وراء التطبيع معهم.
يسير الاستبداد والتطبيع في مسارين متوازيين، فلا يمكن أن يكون هناك تطبيع دون وجود نظام استبدادي، فهما متلازمان حتى تكتمل العملية التطبيعية على أكمل وجه، وهذا التلازم لا ينفك أبداً طالما احتاجت هذه الأنظمة للحماية الخارجية للتخلص من الديمقراطية ومواجهة شعوبها وحماية ثرواتها ومكتسباتها، والتطبيع هو الحماية لهذه الأنظمة التي تخشى التحولات والتهديدات الخارجية والثورات التي تهدد عروشها وسلطتها.