كان الإمام حسن البنا رحمه الله حريصاً على غرس الثقة في نفوس أتباعه الشباب بانتدابهم للمهام الصعبة والخطيرة، وهي مسألة مهمة وخطيرة، وذات أبعاد جليلة، كما أنها سُنة نبوية تربوية راشدة، تعني في أقل أبعادها المشاركة في حمل المسؤولية، وعدم الاستئثار في الأمر، في مركزية بغيضة، أو ادعاء الحرص والفهم وحسن التصرف دون الآخرين، ومثل هذا إن حدث –وما أكثر ما يحدث!- يعني تزكية النفس واتهام الآخرين!
يحدثنا عن هذه الميزة والصفة الجليلة أ. عمر التلمساني بقوله: «لقد عمل جاهداً على غرس الثقة في نفوس الإخوان، ورعايتها وتنميتها، وتغذيتها بكل مقومات الإيقاع والازدهار، كان يلقي بالمهام الكبيرة على كواهل الشباب من الإخوان، ويترك لهم حرية التصرف، للتجربة والاختبار، لا يقيد مندوبه بقيود تضيق عليه دائرة التصرف، إن هي إلا نصائح، ويترك مندوبه يستلهم الحكمة والدقة والحذر في مهمته من بينات فؤاده، وخالص تفكيره..».
ويروي هذه الحادثة كدليل واضح على هذا الخلق: «حدث في بور سعيد صدام بين الوفديين والإخوان المسلمين، اعتدى فيه الوفديون على دار الإخوان في بور سعيد، وأشعلوا فيها النيران، وقتل أحد الوفديين، وتأزم الموقف في بور سعيد، وأعلنت فيها حالة الطوارئ، بسبب ما كان في الأعصاب من غليان، وتدخل رجال الشرطة، وشرعت النيابة في التحقيق، وأرسل إليّ الإمام الشهيد تلغرافاً بالسفر إلى بور سعيد في الديزل، الذي يغادر محطة القاهرة الساعة الواحدة مساء إلا خمس دقائق إلى بور سعيد، وكان لا بد من السفر، وعلى رصيف محطة سكة حديد الإسماعيلية، كان الإمام الشهيد في الانتظار، والديزل لا يقف أكثر من خمس دقائق لا تكفي لشرح أي شيء، وكانت توجيهات الإمام الشهيد: تصرف كما يملي عليك الموقف، دون الرجوع إلى القاهرة في شيء، والله معك».
ويكمل الأستاذ حديثه معلقاً على الموقف ومبيناً خطورته: «إنه موقف دقيق في قضية حرجة محرجة، لا تفصيلات، لا شرح، ودون استشارته هو نفسه، والوفديون متمرسون بمثل هذه المواقف، ولهم فيها خبرة واسعة في المناورات، ماذا عسى أن أفعل مع هؤلاء المداورين المناورين، بالنسبة لي كان الموقف محيراً! كل خطوة محسوبة لها ما وراءها! المسؤولية دقيقة لأنها موقف جماعة، وفي هذا الوقت المربك يترك المرشد جنديه يتصرف وفق ما تمليه عليه ملابسات الظروف، إذاً فلا بد من تقدير هذه الثقة التي وضعها المرشد فيَّ.
إن صورة الإخوان المسلمين في بور سعيد متوقفة على تصرفي، أحسست بالمسؤولية وخطورتها، ليس هناك من خيار، فقد تحرك الديزل متجهاً إلى بور سعيد، وأخذت أضرب أخماساً في أسداس، وأنظر نظرة الدهشة، بل والتقدير إلى الوضع الذي أقامني فيه الإمام الشهيد، لم يبق إلا أن أتصرف معتمداً على الله.
فكانت أول خطوة أني نزلت من القطار إلى المحافظ رأساً (المرحوم فؤاد شيرين)، وطلبت منه أن يهيئ لي لقاءً مع الوفديين في بيت رئيسهم، وذهل المحافظ، أتذهب إلى الوفديين وقد أحرقوا جانباً من داركم؟! قلت: نعم، وهذا هو مفتاح فك هذا التوتر القائم في بور سعيد، وتم اللقاء، ورد بعض الوفديين الزيارة آخر النهار، وسارت الأمور سيرها العادي بعد ذلك، في مثل هذه المواقف، وعدت إلى بلدي بعد أن حظيت بتوفيق الله، ثم شكر الإمام الشهيد، ثم حمدت الله على أن وفقني وجعل ثقة المرشد في موضعها».