بدون سابق إنذار، طلب منا جميعاً أن نحاول مغادرة المكان الذي نزحت منه مع بعض الجيران والأقارب، أخذت بسرعة قبل كل شيء أتفقد حجابي بأنه ثابت بشكل قوي، وحملت حقيبتي الصغيرة التي تحتوي على الأوراق الشخصية المهمة، وأسرعت في السير بخطوات متسارعة إلى الشارع بطرق مختلفة لعلها تكون أكثر أماناً وبعداً من دبابات الاحتلال.
كنت خلال الطريق أحاول قدر المستطاع أن أحافظ على تلاوة ما تيسر من القرآن، وخاصة «آية الكرسي»؛ حتى أشعر بالأمان، وخوفاً أن تباغتني طائرة الاحتلال بصواريخها فتكون آخر أنفاسي بذكر الله تعالى.
وبعد مسافة طويلة من السير حتى وصلت إلى مكان ظننت به الأمان، وما إن أخذت ألتقط أنفاسي حتى جاءت قريبتي سماح لتطمئن على أهلها، فهي لم ترهم منذ فترة طويلة.
سلمت عليها بحرارة السلامة والاشتياق، وسرعان ما أرادت المغادرة حتى تعود لبيتها حيث تتواجد ابنتاها، فالوضع خطر، وينبغي عدم الإطالة في الزيارة.
استشهد البيت وأهله
ما هي إلا دقائق قليلة حتى سمعت قصفاً عنيفاً بالقرب من تواجدي، وبعدها بوقت قصير جداً حتى سمعت صوت صراخ شعرت بأن هناك أمراً خطيراً قد حدث، فقد كانت قريبتي سماح تصرخ وتبكي بحرقة في الشارع وتردد: «شفت الصاروخ قصف بيتي»!
ركضت إليها فكانت أول شيء تقوله هو السؤال عن ابنتيها جمانة، وبلسم.
حاولت تهدئتها وأخبرها بأن القصف قد لا يكون في بيتها، لكنها قالت لي: «شفته الصاروخ بعيني قصف بيتي.. بناتي بلسم، وجمانة، فيه».
وبالفعل ما هي إلا دقائق قليلة حتى جاء الخبر اليقين حينما وجدت الرجال من أقاربي يبكون قهراً على الأرض فلم تعد أقدامهم تحملهم.
كانت الجثامين من خلفهم تؤكد إجرام الاحتلال في استهدافهم بدون أدنى رحمة.
فقريبتي سماح استشهدت ابنتاها، أما قريبي عميد فقد استشهدت زوجته سلام وبناته الثلاث؛ شام، وشهد، وساندي، أما قريبتي فادية فقد استشهدت مع ابنتيها، أما قريبتي عطاف فقد استشهد نجلها علام.
في ذلك الوقت بكيت كثيراً بحرارة، وشعرت بوجع في قلبي على هذه الفاجعة التي اهتزت لها المنطقة.
فقد قصف البيت على رؤوسهم جميعاً دون أي إنذار ودون رحمة، كذلك فلم ترحم صواريخ الاحتلال أجساد الأطفال، فبلسم كانت تشتهي تناول حلوى الجلي بطعم الفراولة، وكانت تنتظر والدها بأن يحضرها لها ورغم صعوبة ذلك، إلا أن والدها أخذ يبحث عنها لساعات طويلة حتى وجد علبة أسعدت قلبه خاصة أن طفلته الصغيرة بلسم كانت تحبها كثيراً.
حمل والدها علبة الحلوى وهو يسارع في خطواته ليقدمها لصغيرته لكن قبل أن يصل بدقائق كان القصف، فأخذ يبكي بحرقة ويقول لجثمان صغيرته: «يابا بلسم ردي عليَّ جبت لك علبة الحلوى بطعم الفراولة.. يابا ردي عليَّ».
قتلوا علَّاماً مرتين!
حتى علَّام لم ترحمه صواريخ الاحتلال، رغم أنه كان على سريره الطبي فلا يتحرك من جسده شيء إلا رأسه فقط، تم إصابته حينما كان طفلاً بعمر الزهور من قبل رصاص الاحتلال الذي أصاب حبله الشوكي؛ مما أدى إلى شلل كامل لجسده لأكثر من 30 عاماً.
وفي هذه الحرب تم قصف البيت على رأسه، فلم ترحم صواريخ الاحتلال جسده المشلول، فكل شيء في نظره مستهدف، ودائماً يبرر أفعاله بالكذبة المشهورة: «قصفنا لأنه يشكل خطراً علينا»!
كل شيء في غزة بالنسبة للاحتلال يشكل خطراً بنظره، حتى الطفلة الرضيعة ساندي التي استشهدت مع والدتها وأخواتها كانت بالنسبة للاحتلال مصدر خطر!