يتداول البعض فتوى عن الإمام مالك يرحمه الله، أجاز فيها قتل الثلث ليعيش الثلثين في أمن، وأمان، ورفاهية، واستقرار!
ونريد أن نقف مع هذه الفتوى الوقفات التالية:
أولاً: هذه فتوى مكذوبة من حيث نسبتها إلى الإمام مالك، وهو كما أطلق عليه: شيخ الإسلام، وحجة الأمة، وإمام دار الهجرة، ومفتي الحجاز، وفقيه الأمة، وسيد الأئمة، وقد جمع بين علم الحديث، وعلم الفقه، وبرع في هذين العلمين حتى عدَّه أهل الحديث محدثاً، وعده أهل الفقه فقيهاً، وهو بلا شك محدث عظيم دلّ على ذلك كتابه المعروف «الموطأ»، وهو كذلك فقيه محنك دلّ على ذلك مذهبه المعروف في الفقه الإسلامي «المذهب المالكي».
ثانياً: وباطلة من حيث الأدلة الشرعية التي تؤكد حرمة دماء الإنسان دون الالتفات إلى معتقده الديني، قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة: 32)، وحرمة دم المسلم خاصة، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) (النساء: 92)، وقال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «.. فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده، ألا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه..» (صحيح الترمذي، 3087).
ثالثاً: الذي يقتضيه المنهاج الدقيق في البحث العلمي أننا نأخذ آراء أصحاب كل مذهب من كتب أصحاب المذهب نفسه دون غيرها من الكتب، فليس من المنهج العلمي الدقيق أن نعمد إلى كتب المالكية لتحرير مذهب الشافعية، مثلاً، في مسألة من المسائل، بل لو أردنا أن نحرر مذهب الشافعية في مسألة، فعلينا أن نذهب إلى كتب الشافعية أنفسهم، فهذا هو العدل، وهو ما يقتضيه المنهج العلمي الدقيق.
فإذا ذهبنا لتحرير هذا النقل الذي نقله البعض عن الإمام مالك يرحمه الله من خلال كتب المذهب المالكي، لوجدنا أن فقهاء المالكية ينفونه عن الإمام مالك وينكرون نسبته إليه، ولا يثبتونه له في كتاب من كتبهم، ولنأخذ مثالًا بفقيه كبير من فقهاء المالكية وهو الإمام شهاب الدين القرافي يرحمه الله، فقد قال: «وأما ما نقله من إباحة الدماء والأموال بما قاله، فالمالكية لا يساعدونه على صحة هذا النقل عن مالك، وكذلك ما نقله عن الإمام في البرهان من أن مالكاً يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين، المالكيةُ ينكرون ذلك إنكاراً شديداً، ولم يوجد في كتبهم، إنما هو في كتب المخالف لهم، ينقله عنهم، وهم لم يجدوه أصلاً»(1).
وقال ابن الشماع: «ما نقله إمام الحرمين لم ينقله أحد من علماء المذهب، ولم يخبر أنه رواه نقلته، إنما ألزمه ذلك، وقد اضطرب إمام الحرمين في ذكره ذلك عنه كما اتضح ذلك من كتاب البرهان»(2).
وما ذُكر هنا من هذا النقل، إنما ذكروه عن مالك، على طريق «الإلزام» لمذهبه، لا على طريق النقل والراوية، وقد وضَّح هذا الإمام أبو بكر بن العربي المالكي حيث قال: «.. نسب الخراسانيون الحنفيون والشافعيون إلى مالك: أن هلاك بعض الأمة في الاستصلاح واجب».
وهو بريء من ذلك؛ وإنما سمعوا من قوله اعتبار المصلحة، فاعتبروها بزعمهم حتى بلغوا بها إلى هذا الحد، وكان من حقهم -لجلالة أقدارهم في العلم، ومن سعة حفظهم، ودقة فهمهم- أن يتفطنوا لمقصده بالمصلحة، وأن يجروها مجراها، ويقفوا بها حيث انتهت..»(3).
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين، وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات، فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيء من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البناني، وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمناً طويلاً وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة»(4).
وقال الشيخ الشنقيطي أيضاً: «وما ذكره المؤلف من أن مالكاً أجاز قتل الثلث لإصلاح الثلثين ذكره الجويني وغيره عن مالك، وهو غير صحيح، ولم يروه عن مالك أحد من أصحابه، ولم يقله مالك كما حققه العلامة محمد بن الحسن البناني في حاشيته على شرح عبدالباقي الزرقاني لمختصر خليل»(5).
وقد أنصف الإمام مالكاً في ذلك جمع من المحققين من غير المالكية.
قال الطوفي: حُكِي أن مالكاً أجاز قتل ثلث الخلق لاستصلاح الثلثين، ومحافظة الشرع على مصلحتهم بهذا الطريق غير معلوم، قلت: لم أجد هذا منقولاً فيما وقفت عليه من كتب المالكية وسألت عنه جماعة من فضلائهم، فقالوا: لا نعرفه»(6).
وقال الزركشي: «قال الإمام الجويني في البرهان: وأفرط في القول به حتى جره إلى استحلال القتل، وأخذ المال لمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لها مستنداً، وحكاه غيره قولاً قديماً عن الشافعي».
وقال أبو العز المقترح في حواشيه على البرهان: «إن هذا القول لم يصح نقله عن مالك، هكذا قاله أصحابه، وأنكره ابن شاس أيضاً في التحرير على الإمام وقال: أقواله تؤخذ من كتبه وكتب أصحابه، لا من نقل الناقلين»(7).
وقد جاء عن أحد أعلام المالكية الكبار وهو المازري ما يفهم منه تصحيح نقل الجويني عن مالك في هذه المسألة، حيث قال في التوضيح: وذكر أبو المعالي أن مالكاً كثيراً ما يبني مذهبه على المصالح، وقد قال: إنه يقتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين، المازري (وهذا الذي حكاه أبو المعالي عن مالك صحيح).
وفي بعض نسخ التوضيح، ولكنه في تضمين الصناع، وانظر كلام القرافي في آخر شرح المحصول، فإنه تكلم في مسألة المصالح المرسلة بكلام حسن، وأنكر ما ذكره إمام الحرمين عن مالك، وقال: إنه لا يوجد في كتب المالكية فتأمله(8).
ولكن عند التدقيق نجد أن المازري لا يقصد تصحيح القول بقتل ثلث الخلق عن مالك، بل يقصد أن يصحِّح ما جاء في أول كلام الجويني وهو أن مالكاً كثيراً ما كان يبني مذهبه على المصالح.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اعصم دماء المسلمين في كل مكان.
__________________________
(1) نفائس الأصول شرح المحصول (9/ 4092).
(2) منح الجليل شرح مختصر خليل (7/ 513).
(3) القبس شرح الموطأ (3/ 932).
(4) المصالح المرسلة (1/ 10).
(5) مذكرة في أصول الفقه (1/ 203).
(6) شرح مختصر الروضة (3/ 211).
(7) البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 84).
(8) مواهب الجليل (5/ 430).