في تقرير نشرته مجلة «FOREING AFFAIRS»، وهي مجلة أمريكية تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية بعنوان «حماس تنتصر» ومما جاء فيه: «بعد 9 أشهر، و40 ألف جندي، و70 ألف طن من المتفجرات، و37 ألف قتيل، وتهجير 80% من سكان القطاع، وتدمير أكثر من 50% من غزة، وقطع المياه والكهرباء، وقطع الغذاء وترك الناس للموت بسبب الجوع، «حماس» لم تُهزم، بل الواقع يقول: إنها باتت أقوى، وأصبحت مستعصية على الحل».
وإذا أخذنا في الاعتبار الكثافة السكانية في القطاع بالنسبة إلى مساحته، نجد أن قطاع غزة من أكثر الأماكن في العالم كثافة في السكان، وإذا أضفنا إلى ذلك تعمد الاحتلال قصف المدنيين في تجمعاتهم الآمنة -حسب تصنيف الاحتلال- فإن العقل يقف حائراً كيف يتمكن أهل غزة من الصمود بهذا الشكل العجيب؟! وكيف لهذه العصبة القليلة من المجاهدين بعتادهم اليسير إيقاع الخسائر الفادحة في جيش الاحتلال ومرتزقته من مختلف أنحاء العالم؟! بل وتدل المؤشرات على عدم قدرة الاحتلال تحقيق أي من أهدافه المعلنة من حربه الشعواء على غزة.
لا بد أن تكون هناك قوة خارجية تنصر المجاهدين وتمدهم بأسباب الصمود، وتثبت حاضنته الشعبية على الرغم من هذا المصاب الجلل، إنها عناية الله التي تحتضن غزة احتضاناً، وتمد أهلها بالرضا والتسليم بقضاء الله الذي لن تكون عاقبته إلا خيراً، فهذا الدمار الكبير والفقد العظيم لم يفتّ من عضد المجاهدين ولا حاضنته الشعبية التي تعاني الأمرّين من هذه الحرب الوحشية، فمن سلم من الصواريخ والتفجير لم يسلم من الحصار والتجويع، لكنهم ما استسلموا للعدو وأعوانه، كما استسلمت اليابان بعدما أصابها من تفجير وحشي على هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية الثانية عام 1945م، بل صمدوا وثبتوا ونالوا من عدوهم وأذاقوه من الألم الكثير، واستلهموا من آيات الكتاب العزيز لاءات الثبات والتمكين، التي أصبحت بمثابة اليقين عندهم، وهذه اللاءات نجدها في قوله تعالى: (لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ) (آل عمران: 156)، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ) (آل عمران: 196)، (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) (النساء: 104)، (لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر: 53)، (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (إبراهيم: 42)، (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) (النور: 57).
ولقد أضاف مجاهدو «القسام» لاءً جديدة استلهموها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، جعلوها شعاراً لهم، فقد كتبوا في مقطع فيديو لعملية قنص جندي صهيوني في الشجاعية بغزة العبارة الآتية: «وسنبقى على جبل الرماة، وخلفنا صوت النبي صلى الله عليه وسلم يردد: لا تبرحوا لا تبرحوا».
ويكأن عاقبة غزة بمجملها كعاقبة سيدنا موسى عليه السلام، فقد استهدف فرعون قتله طفلاً رضيعاً، فخافت عليه أمه فأوحى إليها الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7)، وقال: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى {38} أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) (طه)، ويكأن غزة الآن في مرحلة مواجهة أمواج اليم المتلاطم وحيدة دون نصير، إلا أن عاقبتها ستكون نصراً وتمكيناً، ويكأنها تُصنع صناعة ربانية خاصة، ليبعث الله بها الأمة من جديد، وليوقظها من غفلتها التي طالت، كما صنع سيدنا موسى عليه السلام؛ (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: 39).
وإن غداً لناظره قريب، إذ لا بد لهذ الأمة من نهضة وثابة، ومن مجدد يجدد لها أمر دينها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة دينها» (رواه أبو داود، وصححه الألباني في الصحيحة، ح599)، وأحسب أن غزة تمارس هذا التجديد للأمة في وقتنا المعاصر.
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا.