يتخيل البعض أن المجتمع المسلم حين يطبق فيه شريعة الإسلام هو مجتمع متجهم ساكن صامت، لا ابتسام، لا تزاور، لا تنزه، لا تجمعات شرعية ومشروعة!
وقد ساهمت وسائل الإعلام الخبيثة في وضع صورة رجل الدين بشكل منفر يدعو للاشمئزاز والخوف، وصورت المرأة المسلمة الملتزمة وكأنها شيطان لا تعرف النظافة أو الرقة أو النظام أو المودة!
ونشأ جيل مسلم في بلاد المسلمين يحسبون أن التقدم والجمال والبشاشة إنما هي في التخلي عن الدين وموروثاته وأخلاقياته وقيمه.
وقد أصبح من واجب الدعاة اليوم إعادة التعريف بقيم وثوابت الدين من جديد في زمن يتلقى فيه الطعنات من كل جانب في حملات منظمة تحاول النيل منه بتشويه حقيقته.
نصوص شرعية في طلاقة الوجه
قال الله تعالى يأمر بخفض الجناح للمؤمنين والتواضع لهم: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88)، وقال تعالى مشيداً بخلق الرحمة عند النبي صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
وعن قيمة الكلمة الطيبة والقول اللين، عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ» (متفق عليه)، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والكلمةُ الطيبة صدقةٌ» (متفق عليه)، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أنْ تلقى أخالك بوجهٍ طَلِقٍ» (رواه مسلم).
وعن قيمة التبسم في وجه المسلم وأنها صدقة يجزى عليها، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرَّجل في أرض الضَّلال لك صدقة، وبصرك للرَّجل الرَّديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشَّوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» (صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي).
ولا يتعلل أحد بكثرة الانشغال، أو بكثرة الهموم، أو بوضعه الاجتماعي الذي يجبره على التجهم في وجه الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد المرسلين وأكثر الناس انشغالاً وهماً، كان أكثر الناس تبسماً وبشاشة، فعن عبد الله بن الحارث قال: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن جرير بن عبدالله البجلي قال: «ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسمَ في وجهي» (رواه مسلم).
النبي صلى الله عليه وسلم متبسماً
كانت الابتسامة ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، وقد بوَّب البخاري في «صحيحه» باب «التبسم والضحك»، وجمع أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكذلك جمع الإمام مسلم في «صحيحه» أحاديث في التبسم، بوَّب لها الإمام النووي في كتاب الفضائل «باب: تبسمه وحسن عشرته صلى الله عليه وسلم»، وكل ذلك يدل على البشاشة والابتسامة التي كانت تلازم النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأحاديث:
عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر بن الخطَّاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوةٌ من قريشٍ يُكَلِّمنه، ويستكثرنه، عاليةٌ أصواتهنَّ على صوته، فلمَّا استأذن عمر بن الخطاب؛ قمن، فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سِنَّك يا رسول الله! فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عجبت من هؤلاء اللاَّتي كنَّ عندي، فلمَّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب».
أقوال السلف في طلاقة الوجه
أفضل من طبق تعاليم الشريعة الإسلامية هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، فعن عبدِاللهِ بنِ المُبارَكِ أنَّه وصَف حُسنَ الخُلقِ، فقال: «هو بَسطُ الوَجهِ، وبَذلُ المعروفِ، وكَفُّ الأذى» (رواه الترمذي).
وقال ابنُ المُبارَكِ أيضًاً: «إنَّه ليُعجِبُني مِن القُرَّاءِ كُلُّ طَلْقٍ مِضحاكٍ، فأمَّا مَن تلقاه بالبِشرِ، ويَلقاك بالعُبوسِ كأنَّه يَمُنُّ عليك بعَملِه؛ فلا أكثَر اللهُ في القُرَّاء مِثلَه»(1)، وقيل للأوزاعيِّ: ما كرامةُ الضَّيفِ؟ قال: طَلاقةُ الوَجهِ، وطِيبُ الحديثِ(2).
وقال أبو جَعفَرٍ المنصورُ: إذا أحبَبْتَ المَحمَدةَ مِن النَّاسِ بلا مَؤونةٍ، فالْقَهم ببِشرٍ حَسنٍ(3).
وقال ابنُ حِبَّانَ: البَشاشةُ إدامُ العُلَماءِ، وسَجيَّةُ الحُكَماءِ؛ لأنَّ البِشرَ يُطفِئُ نارَ المُعانَدةِ، ويُحرِقُ هَيَجانَ المُباغَضةِ، وفيه تَحصينٌ مِن الباغي، ومَنجاةٌ مِن السَّاعي، ومَن بَشَّ للنَّاسِ وَجهًا لم يكنْ عندَهم بدونِ الباذِلِ لهم ما يَملِكُ(4).
وقال الأحنَفُ: رأسُ المُروءةِ: طَلاقةُ الوَجهِ، والتَّودُّدُ إلى النَّاسِ(5)، وعن ميمونِ بنِ مِهْرانَ قال: المُروءةُ: طَلاقةُ الوَجهِ، والتَّودُّدُ إلى النَّاسِ، وقضاءُ الحوائِجِ(6)، وكان يُقالُ: أوَّلُ المُروءةِ طَلاقةُ الوَجهِ، والثَّانيةُ: التَّودُّدُ إلى النَّاسِ، والثَّالثةُ: قضاءُ حوائِجِ النَّاسِ(7).
وقال لُقمانُ لابنِه: «خَصلتانِ يَزينانِك: اعلَمْ أنَّه لا يطَأُ بِساطَك إلَّا راغِبٌ فيك، أو راهِبٌ منك؛ فأمَّا الرَّاهِبُ منك فأَدْنِ مَجلِسَه، وتهلَّلْ في وَجهِه، وإيَّاك والغَمزَ مِن ورائِه، وأمَّا الرَّاغِبُ فيك فابذُلْ له البَشاشةَ، وابدَأْه بالنَّوالِ قَبلَ السُّؤالِ؛ فإنَّك متى تُلجِئْه إلى مَسألتِك تأخُذْ مِن حُرِّ وَجهِه ضِعْفَيْ ما تُعطيه»(8).
________________________
(1) شعب الإيمان للبيهقي.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي (2/ 18).
(3) الموشى لأبي الطيب الوشاء، ص 29.
(4) روضة العقلاء لابن حبان، ص 75.
(5) التذكرة الحمدونية لابن حمدون (1/ 204).
(6) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (61/ 363).
(7) الموشى لابن الطيب الوشاء، ص 29.
(8) الجليس الصالح والأنيس الناصح للمعافى بن زكريا (1/ 449).