قامت «القضية الفلسطينية» شاخصة في هذا العصر كمثالٍ واضحٍ لكيفية حصول الظلم والقهر، ويسمى اجتماعهما في لُغة العرب «الضُهْدَة»، وهي: الغَلَبة والقَهْر، وفُلان ضُهدة لكل أحدٍ: أي كلّ من شاء أن يقهره: فعل(1).
وشاء الله تعالى أن يكون الشعب الفلسطيني «ضُهدة» لليهود والدول الكبرى على مدى قرن كامل، سبقه قرن تمهيد لذلك منذ زمن نابليون، وإذا جعلنا تفريط المسلمين في أمر فلسطين وجهاً آخر لحقيقة الضهدة، فإن وصف حصول الظلم من كل أحد كما هو في النص يكون صحيحاً دقيقاً.
وما كان هناك تفريط تام من أهل فلسطين أو من عامة الأمة الإسلامية، وإنما حاولوا ودافعوا مراراً، ولكن العمل إذا لم تسيطر عليه خطة ماهرة، ولم تستوعبه قيادة مخلصة واعية، ولم يخدمهُ إعلام مكافئ وتمويل كاف؛ يكون إلى الفورة أقرب، وبردّة الفعل الساذجة أشبه، وذلك كان قَدَر فلسطين، حتى نشأت حركة «حماس» وفرضت نفسها في الساحة، وصارت تمثل كُتلة جهاد، بأيادٍ طاهرة، تـتـقدم على بيّنةٍ ودراسة ورؤية إستراتيجية واعية، ووضوح عقيدي وفكري، فصار يُؤذَن لكل مسلم أن يُبَشّر بنصر منتظَر.
وفي الحياة الإسلامية الأولى كانت هناك ممارسات لمعاني الحرية تبقى هي الجذر لمن يريد التأصيل وإحياء طرائقها، ورجال الشرع في المقدمة، وفي التعريف بشريح القاضي أنه كان لا يجيز الاضطهاد.
وإنما يعنون ما في حياة الناس اليومية من تظالم وقهر حين التصرف والتعاقد، ولكنه إيماء من شريح إلى ما هو أكبر، وتعليم منه لكل مسلم أن يسعى نحو الحرية ويكون أبياً، ومعاني الحرية السياسية إنما تبنى على أساس من معاني الحقوق المدنية وعدالة القضاء، وإشارات القاضي النزيه هي البيئة المربية للمجاهد والسياسي المنتفض.
«حماس» استحالت مذهباً في الجهاد مُتميزاً
وتكتسب هذه الأحاسيس بُعداً نفسياً آخر حين تكون فلسطينية، بسبب الهجرة القاسية التي فُرضت على أهلها، فالمهاجر والطريد المظلوم يحن إلى وطنه حنيناً شديداً، ويحس أنه كالجمل المأسور عن الحركة، وهو قول ذي الرمة:
كأنني نازعٌ: يَثْنيه عن وَطَــــنٍ صَرْعانِ: رائحةً: عَقْلٌ، وتقييدُ
الصرعان: نصف النهار الأول، ونصفه الآخر، يقول: كأنني بعير نازعٌ إلى وطنه، وقد ثناه عن إرادته عقلٌ وتقييد، فعقله بالغداة: ليتمكن في المرعى، وتقييده بالليل: خوفاً من شـراده(2).
وتفصيل الشطر الثاني أنهما صرعان اثنان: عقلٌ رائحةً، أي ربط رجليه عند الرواح آخر النهار، وتقييدٌ غدوةً، لكنه حذف ذكر الغدوة التي هي أول النهار من باب الاكتفاء بما أشار إلى وجود صرعين.
فكذلك الفلسطيني المقيد: نصف دهره في هموم المعيشة، ونصف في الكبت وإبعاده عن مقدمات الثورة والجهاد، ويُراد له ألاّ يشرد من خطط الترويض.
ولئن نـجـحت خطط العدو في إرهاقنا حيناً، فإنّ ذلك لا يشفع لليأس أن يجد له طريقاً إلينا، لأن النظر الفاحص إلى تصاريف الدهر وطبائع الحياة يعظنا أنه ما من حال يدوم، وأن الرهق يتلوه انفراج ولا بد، وفي ثنايا ذلك تتاح فرص الاستدراك والتعويض، فمن أهم الملاحظات في حركة الحياة أنها ليست تياراً متصلاً، بل متقطعاً، وهذه الملاحظة هي من العلم الشائع المتفق عليه بين البشر، التي ترجمها الشاعر فروة بن مسيك المرادي فقال:
كذاكَ الدهرُ دولَتُه سِجال تَكُـرُّ صروفُه حِيناً فحينا(3)
وقول الناس في الأمثال: الأيام دُول.
فالتغير صفة دائمة، بل هو الذي يولد التحريك، ولا يركد على حال واحد، وإنما هو دائم التبدل.
وهنا يكون لكل أحد حق التجريب، فتكون طرائق العمل هي المعوّل عليها في حصول أمل، أو بقاء في المتاهة.
وهذا هو الذي يجعل لطريقة «حماس» في الجهاد القيمة الكبرى، فالقضية غير متعلقة بزعامة، ولا بانتخابات، وإنما بمنهجية شاملة ومنظومة قيم وخطط متكاملة، وجدارة «حماس» فرعٌ لوضوح الطريقة، وإبداع قيادتها إنما هو من نتاج الفكر الذي تؤمن به.
ضَربَة معلم
وكما كانت الوسطية عنوان سلامة الفكر الإسلامي لما أرادت أن تجنح به التطرفات، فإن الوسطية السياسية الجـهادية هي الركــن الأوثـق الذي أسنـدت إليـه «حـماس» ظـهرهـا، فاسـتـقــامت مواقـفها، وصــار التـعـقّـل سـمةً لها، والنسبية بابَ تأويل لما يُظن أنه من التناقض، والجمعَ بين الصوابين مخرجاً آمناً من أحادية النظر، وكأن «حماس» قد أذعنت في مبتداها وعند توغلها لوصية حكيم العرب أكثم بن صيفي التميمي حين قال: «من جهة التواني وترك الرويّة: يَتلَف الحزم»(4).
وهو يشير إلى ضدين متطرفين فيهما فواتُ مواتاة الفرصة؛ تكاسلٌ وتمريض وإبطاء، أو استعجالٌ لا يُتاح معه تدبر وتخطيط، وإنما الحازم المتوسط الذي تكون بين نهضته وهجمته وقفة تأمل، وكأن ترك الرويّة أخطر من التواني، إذ المتواني قد يُوعَظ فيستدرك فينال نصف النـتيجة إن ذهب عنه كمالها، ولربما أمسك ذيل الفرصة إن لم يستقبلها، ولكن المتهور مردود، فيثّاقل إلى الأرض مُحبَطاً، ولن يستطيع الحركة إلا من بعد دهر تسليةٍ وعلاج، ومن خبرهما يعرف المجاهد والقيادي الدعوي إبداع المواتاة في الزمن المضبوط الصحيح.
ونزول «حماس» اليوم لميدان المنافسة، وحضورها انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني خطوة حازمة في الوقت الصحيح، وتجسيد مُتقَن لشعار «إبداع المواتاة»، وكمنت خلفها شجاعة، تمدها انتصاراتها في الانتخابات البلدية.
وكان أجدادنا يقولون: «مَن جَسَرَ: أيسر، ومَن هابَ: خابَ»(5).
وما هي بدعوة للتهور، ولكن مفاد التجريب الحيوي واضح، والتاريخ يبرهن على أن الدنيا – في جزء من طريقة أخذنا لها – إنما تؤخذ غلابا، وهذا الغلاب يحتاج مبادرة وثقة بالنفس وإقداماً وسرعة قرار، إذ الميدان مليء بالمنافسين، ومعهم الوسائل والأموال، وأيما مبالغة في طلب النـتيجة المضمونة كأنها تـتضمن بذرة خوف صغيرة يمكن أن تنمو تحت غطاء الإسراف في الحذر لتكون عائقاً نفسياً يصد عن استثمار الفرص، فيتركها لشهواني وخياني، فما يعود ممكناً غير اللوم وتـقريع الذات، فـتـكون الفتن الناحـتة للرصيد، ولو كـان جَسَرَ الرائـد عند تلك الـلحظة لاستراح دهراً، ولذلك تـكون ” حماس” قد تجنبت سلبيات كثيرة بمبادرتها المستوفية لأوصاف التخطيط المتقن.
مع أن المؤمن يعتقد أن الأقدار هي فوق هذه الفنون من الريث والعَجَل وقواعد التخطيط، وهي كما قال الشاعر البُعيث:
وأرسل فيها مالكٌ يَسْتَحِثـُّـها وأشفق من رَيبِ المنُونِ ومــا وَألْ
أمالكُ: ما يَقْـــدُر الله تَـــلْقَــهُ وإنْ حُمَّ ريثٌ من رفيقِك أو عَجَلْ(6)
فمالك يريد أن يسابق الموت الذي يحيط به وبرفيقه، فأرسل رسالة بذلك، والضمير ” فيها ” يعود لهذه الرسالة، ولكن البُعيث يعظه أن الأقدار أعلى، ولا يمنع ذلك من اتخاذ الأسباب، لكنه تذكير بأن يتوقع ما لا يرغب.
إنما شأن المؤمن ألا يستسلم للقَدر السلبي الواقع، فضلاً عن الاستسلام لهواجس وقوعه، بل من تمام إيمانه أن يُصارع قدر السوء بقدر الخير، و”حماس” في جميع خطواتها إنما توازن وتداري، وتشد جاذبة ثم تُرخي ثم تشد، وتلك هي قوانين الممارسة السياسية والجهادية، وصورة قادة “حماس” هي صورة البحّارة تميل بهم سفينتهم، بدفع الريحِ الشراعَ، فيجذبون حبال الشراع من أجل التوازن ولئلا تنقلب، وهو المنظر الذي نراه اليوم في شاشة التلفاز عند سباق اليخوت، لكنه منظر قديم انتبه له شاعر البداوة العجاج فقال تخليداً له:
لأياً يُثــانِــيهِ عــن الحــؤور ِ جـــذبَ الصَّـــرارِيِّينَ بالــكُـرُور ِ
أي: هؤلاء الصراري البحّارة يجذبون الكُرور التي هي الحبال بنوع من الإبطاء، لثني السفينة عن أن تحور وتـتأرجح.. ولفظ الشرح في اللسان: (أي يثني هذا القرقور عن الحؤور: جذب الملاحين بالكرور، والكُرور جمع كَرٍّ، وهو حبل السفينة الذي يكون في الشراع)، والقرقور: نوع من السفن، وما زال هذا اللفظ مستعملاً في خليج العرب، ولفظ اللسان: (ويُقال للسفينة: القرقور، والصُرصور).
فهذا الرصد لهذه الحركة الحيوية الجزئية البحرية: إبداع من بدوي ذكي، بل إعجاز، لأنه كما وصف لنا الناقة والصحراء كثيراً: وَصَفَ البحر ومُخُور السفينة، فأجادَ تأمل حكمة الحركة الحيوية الشاملة، ويهمنا من أمره هنا: توازن السفينة، ثم يهمنا من أمر حماس: توازن الأداء والمواقف في أيام صعبة، معادلاتها معقدة، وشد الحبال أصبح فنّاً دقيقاً، وعلى مَن يريد الإبحار الآمن في محيط العولمة وليس بعيداً عن سخونة أحداث العراق: فإن عليه أن يتقنه.
________________________
(1) لسان العرب (2/ 554 / 431).
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق (2 / 565 / 348).
(4) البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي (1 / 154 / 227).
(5) المرجع السابق.
(6) لسان العرب (2/ 363 / 430).
رسالة كتبها الشيخ محمد أحمد الراشد على أثر فوز «حماس» في الانتخابات بفلسطين.
المصدر: «شبكة فلسطين للحوار».