منذ عام 1967م، شهدت الضفة الغربية والقدس سلسلة من الموجات الاستيطانية التي شكلت تحولات جذرية في الوضع الجغرافي والسياسي للمنطقة، ورغم الهزيمة الثقيلة التي لحقت بالدول العربية في تلك الفترة، فإنها لم تؤدِ إلى تهجير شامل للفلسطينيين كما حدث في نكبة عام 1948م.
وبعد احتلال هذه الأراضي، بدأ الاحتلال الصهيوني في تنفيذ إستراتيجيات توسعية تهدف إلى تقليل الكثافة السكانية الفلسطينية وترسيخ سيطرته من خلال بناء مستوطنات جديدة وتوسيع الموجودة منها.
تتراوح هذه الموجات بين محاولات لتوسيع الرقعة الاستيطانية عبر بناء مستوطنات جديدة، وتعزيز السيطرة على الأراضي من خلال سياسات تهدف إلى تغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي.
لقد مر الاستيطان بعدة مراحل، كل منها يعكس سياسات حكومية مختلفة وأهداف إستراتيجية خاصة، أبرزها:
1- الموجة الأولى (1967-1976م):
بدأت مباشرة بعد الاحتلال، حيث كانت حكومة الاحتلال تهدف إلى تثبيت السيطرة على الأراضي الفلسطينية وتجنب إدارة شؤون المواطنين الفلسطينيين، وتميزت هذه المرحلة بالحذر في بناء المستوطنات والاهتمام بالبنية التحتية الأساسية.
وبلغ عدد المستوطنات التي أقيمت في هذه الفترة حوالي 34 مستوطنة، كما قام الاحتلال بهدم حي المغاربة الفلسطيني، الذي كان ملاصقًا لحائط البراق، وتحويله إلى حي يهودي استيطاني في البلدة القديمة، كانت هذه الخطوات تهدف إلى تكريس سيطرة الاحتلال على الجزء الشرقي من المدينة المقدسة.
2- الموجة الثانية (1977-1987م):
مع صعود اليمين إلى السلطة في الكيان الصهيوني عام 1977م، اندفعت القوى المتطرفة لبناء المستوطنات على الأرض بدوافع أيديولوجية وأمنية وسياسية واقتصادية، شهدت هذه الفترة إنشاء العشرات من المستوطنات الجديدة ورفع شعارات تطالب بترحيل الفلسطينيين.
حيث تم تشييد 98 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية خلال تلك الفترة، ومعظم هذه المستوطنات أقيمت بمبادرة من حزب الليكود اليميني الحاكم وحركة «غوش إيمونييم» الصهيونية الدينية المتطرفة، التي كانت نشطة في أعمال الاستيطان.
3- الموجة الثالثة (1996-2022م):
جاءت في ظل عملية التسوية السياسية التي بدأت في التسعينيات، حيث سعى اليمين الصهيوني إلى عرقلة الوصول إلى حلول نهائية خوفًا من تسليم الأراضي الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، تميزت هذه الفترة بتسارع بناء المستوطنات لمواجهة أي تقدم في المفاوضات.
واستهدفت تهويد المنطقة (ج) بشكل شامل، وهي المنطقة الخاضعة أمنيًا وإدارياً للاحتلال حسب اتفاقيات أوسلو، التي تشكل 60% من مساحة الضفة الغربية، كما سعت إلى تحقيق تواصل جغرافي بين بعض المستوطنات البعيدة أو بين الكتل الاستيطانية، وتوسيع السيطرة على القمم والمرتفعات الإستراتيجية في الضفة، وقد عملت هذه الموجة على إحداث تغييرات جذرية في الجغرافيا والديمغرافيا، تدعم المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية.
أطلق عليها الصهاينة اسم «البؤر الاستيطانية غير الشرعية»، وهي تسمية مضللة تهدف إلى التقليل من أهمية وحجم هذه الهجمة الاستيطانية، التي قد تكون الأضخم بين موجات الاستيطان في الضفة الغربية.
4- الموجة الرابعة (2002م):
نشأت بعد فشل عملية التسوية واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000م، حيث اعتقدت القيادة الصهيونية أن الوقت مناسب لفرض السيطرة على أكبر قدر ممكن من أراضي الضفة الغربية، فتم توسيع الاستيطان بشكل كبير وتقطيع الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات معزولة.
وقد انطلقت هذه الموجة في ظل سيطرة اليمين على مقاعد الحكم في دولة الاحتلال، حيث بدأها رئيس حكومة الاحتلال آرائيل شارون الذي تولى القيادة بين عامي 2001 و2006م، ثم خلفه إيهود أولمرت (2006-2009م)، وبعده بنيامين نتنياهو (2009-2021م)، جميع هؤلاء كانوا من رموز اليمين الصهيوني المتشدد الذي سعى بقوة لتهويد الضفة الغربية.
تجسد هذه الموجات المتعاقبة كيف سعى الاحتلال إلى تغيير الواقع الجغرافي والسياسي في الضفة الغربية والقدس؛ مما أثر بشكل كبير على حياة الفلسطينيين وأدى إلى تعقيد الصراع العربي-«الإسرائيلي».
______________________
بتصرف من كتاب «مدخل لفهم الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس».