حالة التخلف الحضاري التي يعيشها العالم الإسلامي، وصور تآكله وانحطاطه بفعل التبعية، ومشاهد التربص بالإسلام –تفرض تجديدًا للخطاب الإسلامي؛ لإعادة التعريف بمقاصد الشريعة، والتذكير بقيمها الحضارية العالمية، وهو –في أصله- خطاب رباني المصدر، وسطي، إيجابي، واقعي، متدرج الخطوات.. وبذا يكون هو الوسيلة التي يخاطب بها المسلمون –أفرادًا وجماعات ومؤسسات- الدنيا بأسرها باسم الإسلام، والمنهاج الذي يعبّرون به عن أفكاره ورؤاه، ضمن إطار أرحب للدعوة، مستندًا إلى مرجعية أساسها الوحيان الشريفان.. وقد صار ضرورة؛ لتطورات الحياة المتلاحقة، ولمواجهة الأخطار الوافدة كالعولمة وغيرها، ولتلبية حاجات الإنسان، وإيجاد البدائل التي لا تتعارض مع آدميته وكرامته.
أزمة حقيقية
يعاني الخطاب الإسلامي المعاصر من أزمة حقيقية جعلته في غير مركز الصدارة مقارنة بالخطابات الأخرى، التي باتت تستعين بوسائل وأساليب مناسبة لروح العصر، متجاوزة القصور الذي يعانيه الخطاب الإسلامي الذي يضربه الجمود والتقليد، والتركيز على الجزئيات دون الكليات، والفروع دون الأصول، والعبادات دون الأخلاق.. ولقد أضحى هذا الخطاب لدى البعض مغاليًا إلى درجة تضيِّق على المسلمين معاشهم، أو تتجاوز في التعامل مع الآخر، كما أضحى بعيدًا عن الواقع، بحصر الدين في التربية دون اعتباره نظامًا شاملًا يتناول مظاهر الحياة جميعًا، بما فيها الحكم والاقتصاد والثقافة والقضاء والجيوش إلخ.. وإن عدم إدراك القائمين على هذا الخطاب للمتغيرات المعاصرة الهائلة، ورّطهم في خطاب قديم لا يناسب العصر، ولا يعالج قضايا الإنسان المستحدثة، وهذا الخطاب التقليدي لم يعد يجدي في الإصلاح الشامل؛ لما يكتنفه من استعلاء مبطّن بالأوامر والنواهي مما لم يأمر به الدين.
سلبيات وعقبات
رغم ما حققه الخطاب الإسلامي من تقدم على أثر الصحوة الإسلامية في العقود الأخيرة من القرن الماضي –فإنه يظل ضعيفًا، تعتريه العديد من السلبيات، كجمود آلياته بسبب القول بتوقيفها، وهذا خطأ ومخالفة للشرع، وهذا الجمود ناشئ أيضًا من قلة الاطلاع وضعف الثقافة العامة، ومن الإحجام عن قبول وسائل الاتصال الجديدة والتردد في الاستفادة منها.. ويعاني الخطاب الإسلامي من ضعف المنهج العلمي، والمبالغة والتهويل، والنظرة الضيقة التي تبدو في التعصب للرأي، وتقديم المفضول على الفاضل، وكذلك الجرأة في تجريح الآخرين.. وقد أضرّ كثيرٌ من القائمين بهذا الخطاب بصورته لدى المتلقين؛ إما لضعف في اللغة أو الإلقاء أو انفصالهم عن واقع واهتمامات الناس، أو تنفيرهم من الدين بأي صورة من صور التنفير.. ولا شك أن هناك عقبات تقف في سبيل تطويره، بعضها اصطنعتها الأنظمة السياسية وأعداء الإسلام؛ ليبقى هكذا متراجعًا غير فاعل؛ فهناك تضييق ملحوظ عليه في أغلب بلاد المسلمين، وهو يعاني من ثمَّ من أزمة تمويل، وهناك متربصون يخططون بالليل والنهار لإفشاله، وجرّاء ذلك ندر من داخله الموهوبون، المبدعون لوسائل وأساليب الخطاب.
خطاب إسلامي رشيد
المأمول في الخطاب الإسلامي المعاصر أن يكون نابعًا من جوهر الإسلام، الداعي إلى التجديد المستدام غير المنقطع عن الواقع، وتلبية الأهداف والطموحات الحضارية للأمة، واستيعاب مستجدات العصر، بعيدًا عن الارتجال والعفوية وضيق الأفق.. ويلزم لذلك:
– القوة في الطرح: وبذل الاستطاعة في مواجهة خطابات أخرى تمتلك إمكانات عصرية معقدة، بتلافي أسباب الضعف، وعدم الوقوع في أخطاء الخطاب القديم، وتدريب القائمين عليه على التوثيق والضبط العلمي، والاهتمام بمعرفة الآخر، ومعرفة واقع المخاطبين.
– الحفاظ على سماته وركائزه: كخطاب وسطي معتدل، يراعي فقه الموازنات والأولويات، عالمي وعام، واقعي وجمالي، يقظ خلّاق، بعيد عن الطبقية والفئوية، متدرج في التربية والرقي الروحي، حريص على تفعيل دور العقل وتمكين المخاطبين من حرية القول والتعبير.
– إعادة النظر في الواقع المعاصر: بعيدًا عن التقوقع والانغلاق، واجترار أفكار لم يعد لها وجود في الواقع، وبعيدًا عن التعميم والإطلاق، والتبرير والاعتذار، والرفض والعنف، والبحث عن الزلّات.
– الاستقلالية ورفض التبعية: وهذا هو ديدن المؤمنين، فإن اللهث وراء المصالح مما يضيّع الأصول، ويعمي عن الحق، ويطعن في شرعية الخطاب وقائله، ويفقده التوازن والمصداقية، وهو انحراف باسم الدين، والدين منه براء.
– توظيف الوسائل الإعلامية المعاصرة: لتحقيق المراد من التبليغ والتأثير، والتغيير في المخاطبين، بكل الوسائل التي لا تتعارض مع الشرع، فالخطاب الإسلامي –في جوهره- هو الأسبق في تطوير وسائل الدعاية والتعبئة، وهو الأقدر على مواجهة دعايات الأعداء ودحض افتراءاتهم.
ضوابط وتوصيات
وإذا أردنا تجديد الخطاب الإسلامي على الصورة السليمة؛ فلا بد أن يُبنى على أصول ومرتكزات، لخصها الدكتور يوسف القرضاوي في عشرة ضوابط: بانتقاله من الشكل والمنظر إلى الحقيقة والجوهر، ومن الكلام والجدل إلى العطاء والعمل، ومن العاطفة والغوغائية إلى العقلانية والعلمية، ومن الفروع والذيول إلى الرؤوس والأصول، ومن التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير، ومن الجمود والتقليد إلى الاجتهاد والتجديد، ومن التعصّب والانغلاق إلى التسامح والانطلاق، ومن الغلو والانحلال إلى الوسطية والاعتدال، ومن العنف والنقمة إلى الرفق والرحمة، ومن الاختلاف والتشاحن إلى الائتلاف والتضامن.. وهذا يتطلب: إفساح المجال للدور الديني في حياة الشعوب، وتجديد مناهج الدراسات الإسلامية، وتيسير الذوْد عن الإسلام، وتحسين صورته لدى الآخر، وتوظيف مستجدات التكنولوجيا المعاصرة في عمليات التواصل الجماهيري.