تعتمد الأمة الحية على وجود الدعاة المتيقظين والمدركين لحركة التاريخ؛ ليستطيعوا تحريك وتوجيه جماهير الأمة نحو صحوة جديدة تزيح معها ما تبقى من سنوات الغياب.
ولن تلتف الجماهير حول داعية أو عالم إلا أن يكون ملتزماً بجملة الأخلاق الإسلامية ليكون قدوة وأسوة لها، يقول الله عز وجل: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34)، ويقول تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199).
ويقول ابن تيمية: جماع الخلق الحسن مع الناس، أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، وتعطي من حرمك التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض(1).
ومن أهم الأخلاق التي يجب أن يتسم بها الداعية هي خلق «الحِلم»؛ وذلك لما يتعرض لها من أصناف الناس بمختلف أخلاقهم وتعنتهم وبيئاتهم، فعليه الصبر والحلم في مواجهة كل ما يلاقيه.
والحلم هو الوسط الأخلاقي بين رذيلتين، أو بين خلقين مذمومين، خلق الغضب، وخلق البلادة والجمود وعدم الفهم، فالإنسان حين يسقط ويستجيب لغضبه ويخطئ قولاً وفعلاً بغير عقل، سقط في بئر الخطأ الذي لا يعرف عمقه، وإذا لم يستجب لدواعي الغضب، ولم يبد أي رد فعل تجاه ما يغضب الله أو يمس دينه وكرامته ورضي بالظلم والمهانة وقع في المعصية وانتفى عنه إيمانه الذي يدفعه لكل مكرمة.
لقد اتصف الله عز وجل وهو العظيم الكبير المتعال القادر على إنفاذ غضبه إذا غضب بالحلم، فقال تعالى عن نفسه: (وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران: 155)، وقال سبحانه: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (فاطر: 45)، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الحلم، فقال عليه الصلاة والسلام للأشج: «إن فيك خصلتين يحبِّهما الله: الحلم والأناة» (رواه مسلم).
أهميته في حياة الداعية
من أهم مقومات النجاح لدى الداعية أن يكون حليماً هادئاً في مواجهة كل ما يمكن أن يلاقيه لدى المدعوين، وقد وصف الله عز وجل نبيه الكريم وأشاد بصفة الحلم التي جعلت له قبولاً لدى الخلق، وكانت سبباً في تجميعهم حوله وحبهم له، فقال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، ولأهمية الحلم في حياة الدعاة اتسمت حياة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الحلم وكثرت المواقف التي تحمل الصبر على أذى الناس شفقة بهم ورحمة لهم، ومن هذه المواقف:
– قصَّة الأعرابي يرويها أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال: يا محمَّد، مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء. (رواه البخاري)، فهذا نبي الله وغضبه يعني غضبة لله عز وجل كانت لتردي ذلك الأعرابي في قعر جهنم، لكن النبي الحليم صبر وحلم وعفا إنقاذاً للرجل.
– يوم «حنين»؛ فعن ابن مسعود قال: لما كان يوم «حنينٍ» آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه الله، فقلت: والله لأُخبرنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته، فقال: «فمن يعدلْ إذا لم يعدلِ الله ورسولُه؟ رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (رواه البخاري).
– حلمه مع مَن هَمَّ بقتله؛ فعن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلّون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتاً في يده، فقال لي: من يمنعنك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام السيف، فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض لـه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (رواه البخاري ومسلم).
وسائل اكتسابه
– استحضار أهمية الثغرة التي يقف عليها الداعية: إن وظيفة الدعاة خير وظيفة على الأرض، فهي إرث الأنبياء والصالحين، وحين يستحضر الداعية دوره في إنقاذ الناس وهدايتهم بهدي الله ومسؤوليته عن إيقاظهم من غفوة ذنوبهم، يسهل عليه التخلق بخلق الحلم والأناة والتريث والصبر حتى على أذى من قد يقدم على أذيته بالقول أو النهر أو التكذيب أو رفض دعوته، واستحضار حاجته هو لحلم الله عز وجل يدفعه للحلم على الناس، فيقول محمد بن السعدي لابنه عروة لما ولي اليمن: «إذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثم عظم خالقهما»(2).
– رغبة الداعية في الحصول على الثواب الكبير للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، واستحضار قول الله تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 133).
– تذكر موطن القدوة والأسوة الحسنة للداعية والمدعو، فالداعية يتأسى في خلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان خلقه الحلم والعفو، والمدعو يجب أن ينظر للداعية فيجده صابراً حليماً كريم الخلق ليحسن اتباعه ويصدقه في دعواه.
______________________
(1) الفتاوى، ابن تيمية (10/ 658).
(2) روضة العقلاء، ابن حبان البستي، ص 212.