لم تكن المرة الأولى التي تتعرض لها د. جميلة الشنطي لغدر الاحتلال الصهيوني وعنجهيته، ففي عام 2006م قادت مسيرة نسائية تضم نحو 200 امرأة لكسر الحصار عن مقاومين حاصرتهم دبابات العدو في مسجد النصر ببيت حانون شمال قطاع غزة.
امتلأ المسجد يومها بالشباب يوم الثالث من نوفمبر، حين مررن من مدخل البلدة بينما تطوقه دبابات الاحتلال «الإسرائيلي»، ووسط إطلاق النار من المروحيات الهجومية.
بعد 3 أيام من المسيرة، قصف الاحتلال بيتها في محاولة لاغتيالها، لكنها باءت بالفشل، فلم تكن موجودة داخل البيت، بينما استشهد عدد من أفراد عائلتها.
الشنطي.. مسيرة علم ونضال انتهت بالشهادة
هي د. جميلة الشنطي، الأكاديمية والسياسية الفلسطينية، حصلت على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة عين شمس، ثم انتقلت للعمل في المملكة العربية السعودية كمعلمة لمدة 10 سنوات.
وفي عام 1990م، عادت إلى غزة، والتحقت بالعمل السياسي، فكانت عضوة في المجلس التشريعي، ثم حصلت على درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بغزة.
وبعدها حصلت على درجة الدكتوراة في الإدارة التربوية عام 2013م من كلية «فرحة» للعلوم الأسرية في جامعة دبي بالإمارات، عبر تقنية «التعليم عن بُعد»، وفي عام 2013م، عُيّنت الشنطي وزيرة للمرأة في الحكومة بغزة.
وبعد أسبوع من شن العدوان على غزة، اغتالها الاحتلال الصهيوني لينهي مسيرة طويلة بين العلم والجهاد.
لم تكن الشنطي وحدها، هي واحدة من الذين كان لهم الأثر الكبير في حياتهم بغزة، الذين كانوا يسطرون أثرًا كبيرًا في طريق التحرير والجهاد.
العرعير.. صوت غزة للعالم الغربي
وللكلمة أيضًا أثر في فلسطين، تدرك ذلك حين اغتال الاحتلال الصهيوني الشاعر والأديب د. رفعت العرعير، الذي كان صوت غزة باللغة الإنجليزية في المجتمع الغربي.
لمدة 20 عامًا ينقل العرعير قصص الوجع والألم لأهل غزة وفلسطين الأسرى والجرحى والشهداء، عدا عن الشباب الذين تحاصر الحدود أحلامهم وتمنعهم من تحقيق نجاحاتهم وأمنياتهم.
فقبل اغتياله بأيام قال في فيديو قصيدة بالإنجليزية لمتابعيه ترجمتها: «إن كنت راحلاً.. فليكن موتي أملًا.. ولترووا قصتي»، فقد كان يحرص أن يدحض روايات الكيان الكاذبة، ويعتبر أن قلمه سلاحه الوحيد الذي يشهره في وجهِ الغزاةِ والدعايات الكاذبة، فقد قال يوم استشهاده وحين اشتدت الأحداث حوله وشعر بدنو أجله: «أنا أكاديمي، وإذا هاجم جنود الاحتلال بيتي، فإني سألقي عليهم القلم.. ولو كان آخر شيء أفعله»!
كان د. العرعير أحد الأكاديميين الذين درسوا الشعر والأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، حيث شرح أعمال شكسبير، وتوماس وايت، وجون دون، ويلفريد أوي، وأصدر كتاب «غزة لا تصمت» و«غزة تكتب مرة أخرى».
فقد كان يؤلمه ويخيفه أن تنقرض قصص الكبار بموتهم، فقد وثقها بالتأريخ الشفهي خوفًا من اختفائها بسبب التكنولوجيا الحديثة.
تايه.. عالم الفيزياء الذي قاوم بالعلم
رغم كل ما تعانيه غزة من حصار مدقع، فإن هناك أبطالًا من العلم سلاحًا للمقاومة أيضًا في وجه المحتل الذي كان يخشى من علمهم وعلوهم ورفعتهم، فكان د. سفيان تايه واحدًا من العلماء الذين رفضوا الخروج من غزة منذ سنين.
البروفيسور سفيان عبد الرحمن تايه، ولد بمخيم جباليا، عام 1971م، تفوق في الثانوية العامة ودرس الفيزياء، وتخرج في كلية العلوم قسم الفيزياء، وانضم بعدها إلى هيئة التدريس بكلية العلوم معيدًا، ثم درس الماجستير والدكتوراة، وحصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء جامعة عين شمس المصرية، وأصبح بروفيسورًا في الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية.
أصبح د. تايه رئيسًا لقسم الفيزياء، ومساعد نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، إلى أن أصبح رئيسًا للجامعة الإسلامية بغزة.
جوائز دولية كثيرة حصل عليها تايه، منها جائزة عبدالحميد شومان للعلماء العرب الشبان، فقد كان ضمن أفضل 2% من الباحثين على مستوى العالم عام 2021م، بناء على دراسة أجرتها «دار النشر العالمية» (Elsevier)، وجامعة ستانفورد في الولايات المتحدة الأمريكية.
عدا عن ذلك، فإنه شارك بأكثر من 285 بحثًا علميًا، عن الاستشعار البصري والحيوي والموجات والألياف والإلكترونيات والاتصالات، والخلايا الشمسية، والصمامات الثنائية الباعثة، وعين حاملًا لكرسي اليونسكو لعلوم الفيزياء وعلوم الفضاء في فلسطين، وفي 3 مارس 2022م، أعلنت عمادة البحث العلمي والدراسات العليا في الجامعة الإسلامية فوزه ضمن أسماء الفائزين بجائزة الجامعة للبحث العلمي لعام 2021م.
ورغم نشوب الحرب، فإن د. تايه لم يتوان لحظة في المسير بطريق العلم، فمنذ بداية العدوان على غزة، اتخذ من زاوية في بيته ملاذًا له لكتابة الأبحاث والاستمرار في السير إلى ذرى المجد، رغم الأوضاع المعيشية الكارثية في شمال غزة، فاستغل أوقات الحرب العصيبة بكتابة الأبحاث وقراءة المقالات العلمية.
وفي ليلة من ليالي الحرب، قصف الاحتلال واغتال سيرة كبيرة من العطاء والأثر، فقتلوه هو وعائلته، فرحلت زوجته شهيدة، وابنته طالبة طب الأسنان، وأخرى تدرس الطب البشري، وابنه المهندس.
الريس والرنتيسي.. نموذجا الإخلاص والعطاء العلمي
الدكتور الشاب ميسرة الريس هو أيضًا ممن رفضوا البقاء في بريطانيا، وعاد إلى غزة حاملًا شهادة الطب البشري، رغم استغراب الجميع بعودته، فإنه كان يقول لهم: «غزة وأهلها أحق البلاد بخبرتي وعلمي».
بعد أيام من نشوب العدوان على غزة، إذ بصواريخ متتالية تفجر بيته وتحيله وعائلته جميعًا جثثًا هامدة تحت أنقاض البيت، بينما كان أخواه يجلبان لهما الطعام فعادا ليجدا البيت مسويًا بالأرض وقد تحول إلى كومة حجارة ورماد، فكتبت لهم النجاة.
على أنقاض البيت وقفا أسبوعًا كاملًا يحفران بأيديهما لعلهما يستطيعان إخراج أحدهم من تحت الردم، وبينما هما في يومهما السابع إذ قصف البيت مرة أخرى ليرتقيا شهيدين، وبذلك يكون الاحتلال قد مسح عائلة الريس من السجل المدني في غزة انتقامًا من سيرته العظيمة في تمسكه بوطنه.
نموذج آخر تمسك بغزة وأبى إلا أن يكون رائدًا من رواد العلم فيها، الأكاديمي الشاب علي الرنتيسي، فقد قدم له أكثر من عرض للخروج من غزة، إلا أنه رفض ذلك وأحب أن يكون ذا أثر لغزة وطلابها.
علي الرنتيسي كان محاضرًا في الجامعة الإسلامية بغزة بعد أن أصبح معيدًا فيها كونه الأول على دفعته، وباحثًا نهمًا في تخصص «النظم الجغرافية»، الذي يشهد له مدرسوه بالطموح اللا متناهي وأدبه الجم واجتهاده في مسيرته العلمية.
كان الرنتيسي يتجهز لدراسة الدكتوراة قبل أن يباغته صاروخ غادر على بيته وعائلته وهم نيام دون أن ينذروهم بقصفه، وذلك بعد شهر من نشوب العدوان على غزة، وهم نيام، ليرحل شهيدًا برفقة أمه وابنته شام التي كانت جنينًا في بطن أمها، أما زوجته فأخرجوها من تحت الأنقاض وقد بترت قدمها اليسرى.
أكثر من 100 أكاديمي وعالم وصاحب أثر كبير كانوا محط استهداف المحتل الغاشم منذ بدء حرب «طوفان الأقصى» على غزة، في رسالة واضحة من الاحتلال تسعى إلى القضاء على القطاع التعليمي والأكاديمي والسياسي بشكل كامل.