يشكل العالم الرقمي بؤرة لأكبر دوامة في هذا الزمن، تبتلع الحياة الإنسانية بلا هوادة، وتهدد إنسانية الإنسان، وتسير به إلى الوحشية وتعظيم السفاسف ونبذ القيم، وعبادة الذات والأهواء والكثير من الأشياء.
وجاءت موجة الحرب على المعنى الإنساني للأسرة، من اشتغال المواثيق الدولية لتشجيع البشر على تغيير الهياكل الأسرية، وتجريب الشذوذ، والأنماط الهجينة، والترويج للعائلات البديلة والتوجه لكراء الأرحام، والحمل من بنوك المني، والابتعاد عن الفطرة، بتعسير الزواج وتسهيل العلاقات المحرمة في الواقع وفي المواقع الافتراضية.
ولهذا، نحاول في هذا الموضوع تتبع مسارات فقدان إنسانية الإنسان المعاصر في ظل التفكك الأسري؛ كيف نربط العلاقة بين الوحشية وأزمة الهوية في العوالم الرقمية؟ ما مظاهر الوحشية وعلاقتها بالسؤال الأخلاقي داخل الأسرة المعاصرة؟ ومن أجل ذلك نحاول ربط العلاقة بين ظاهرة التوحش والوحشية، وفرط التواصل الإلكتروني، وتراجع التواصل الواقعي في زمن «ما بعد الأسرة»!
أزمة الهوية الإنسانية وبداية التوحش
مما لا شك فيه أن الحياة الأسرية قد تفككت كثيراً في ظل فرط التواصل الإلكتروني، هناك اختلالات في التواصل بين أفرادها تواصلاً واقعياً؛ مما أسفر عن إذابة الهوية الإنسانية، ومع تزايد الإحصاءات على ارتفاع نسب الطلاق والعنف، وفقدان الإيمان بأهمية الأسرة، والاستعمال اللامحدود للفضاء الرقمي للهروب من خيبات الواقع، فكان استبدال العلاقات العابرة والغامضة بالعلاقات الدائمة، وبكبسة واحدة يقوم بحذف كل شيء عنها، إنه يبحث عن استعمال المتع في عالم من السرية وبلا مسؤولية.
يقول زيغموند باومان، في كتابه «الحب السائل»، متحدثاً عن هشاشة الروابط في ظل التواصل الإلكتروني: «لكي تصل الحداثة إلى هذه اللحظة من تفكيك مقومات الوجود الإنساني، بعد فك الارتباط بين الإنسان وربه، وبين خياراته، وثواب الدنيا والآخرة، هو أنها هدمت بنيان الأسرة كإطار للعلاقة الوجدانية»(1)، في هذا النص تأكيد على أن الوجود الإنساني رهين بوجود الأسرة، الحاضرة بقوة مقوماتها الوظيفية والحضارية.
ويجدر بنا في هذا الصدد أن نطرح مسألة الهوية، بربطها بسلامة العلاقات داخل الأسرة، فقد أصبح متاحاً للأفراد أن يكون لهم عدة هويات، والشخص الواحد يتنقل بين عدة حسابات ومنصات، ويمضي حياته كلها في الزيف والخداع، وقد يكون رجلاً في الواقع ويلبس قناع الأنوثة في المواقع الإلكترونية، أو العكس تدخل الأنثى مغامرة التخفي بحساب مذكر وتمثل أدوار الرجولة وهي في الواقع أنثى.
وهذا هو الخطر الداهم في قضية الهوية عندما تنفتح على وجهات النظر، حيث يهيمن فيها المتحولون على الطبيعيين، ويصبح الشخص الطبيعي غريباً في عالم كله زيف.
والخوف على أبنائنا حيث يأتي يوم يتزوج فيه الشاب بفتاة، ليكتشف أنها رجل مثله وقامت بتحويل جنسها، أو تتزوج الفتاة برجل، ولكن تصدم بأنه ليس رجلاً ولا امرأة، بل مسخاً مشوهاً، وفي الحقيقة تفتقر هوية الإنسان المعاصر افتقاراً كبيراً إلى البعد الوظيفي والرسالي، حيث يعيش في كهف من العزلة والجمود، نجده في تناقض كبير بين ما يعرضه في المواقع وما يفعله في الحياة، وأيضاً نلمس انصرافاً وعزوفاً عن استيعاب المعنى الحضاري المحرك للفعل الرسالي، لدى الأفراد في البيئة الرقمية، حيث تحول الإنسان مجرد كائن تنفيذي خاضع للإجراءات والبرمجة بلا روح ولا قيم ولا وجدان أو مشاعر ولا رسالة حضارية(2).
الوحشية وسؤال الأخلاق في البيئة الرقمية
نحن بحاجة لإعادة طرح وعي كوني جديد، يحتكم على قراءة ناقدة لظاهرة تفاقم النزعة الرقمية التي تهدد الطبيعة الإنسانية، فكل الاختلالات المعاصرة نتاج تحولات المجتمع إلى البيئة والتكنولوجيا في الاجتماع والتواصل، ومناشط الحياة كلها تحولت لنمط غير حركي في فضاءات افتراضية قابلة للحذف والتحول في أي لحظة، والهدف منه «تعجيل تحول النوع البشري وتسريع مروره إلى وضع جديد بلاستيكي، واصطناعي في الوقت نفس»(3).
وهو ما يؤدي إلى فقدان الإنسان لإنسانيته وهويته الواضحة، إلى هويات متعددة رقمية قابلة للخفاء والتجلي بلا ميزان من عقل أو دين أو قيم، في ظل تنامي منظومة التفاهة وطغيان عبادة الأهواء، في توجه جديد لعالم إلكتروني؛ «طيع وقابل للتوسيع ولتهيئة المرور نحو استغناء جديد عن الأرض، يجب في الحقيقة خلافاً لذلك إلغاء المجتمع، على الأقل نحته، وفي الأخير تعويضه بعالم كلي، عالم الأجهزة الخلوية، والعصبية والحاسوبية، عالم الأنسجة والدم الاصطناعي الذي سيتم ملؤه بأجسام وشخصيات نصف طبيعية ونصف اصطناعية»(4)!
ومن هنا يمكن أن نفهم تفاقم البؤس واليأس وكل أنواع العلل النفسية والاجتماعية على حياتنا المعاصرة، وأضحت المعايير الأخلاقية غير ثابتة ونسبية ونابعة عن المزاج أو المصلحة المادية، إنه زمن التزييف الخلاق، والغش المثالي الاحترافي، ومن ثمة لا بد من مراجعة الأخلاق من جديد، لأننا فقدنا المعنى الحقيقي لكثير من الشمائل، وضاع الورع والإخلاص، وغاب الحياء وطغت الديوثة كالنار في الهشيم!
مظاهر الوحشية في زمن «ما بعد الأسرة»
ولو وقفنا على دلالة «ما بعد» هنا لها علاقة بفكرة التجاوز والقطيعة؛ أي الرفض لمؤسسة الأسرة والتشجيع على تجريب أشكال أخرى للعلاقات بعيداً عن الشكل الطبيعي الفطري (الزواج)، وإفساح المجال للشذوذ وجعله أمراً طبيعياً عادياً، وكما نعرف جميعاً أن العلاقات الشاذة بمثابة هجوم على طبيعة الإنسان الاجتماعية، والطبيعة الإنسانية كمرجعية نهائية، «الشذوذ الجنسي لم يعد مجرد تعبير عن مزاج أو انحراف شخص، وإنما تحول إلى أيديولوجية تهدف إلى إلغاء ثنائية إنسانية أساسية؛ هي ثنائية الذكر والأنثى، التي يستند إليها العمران الإنساني والمعيارية الإنسانية»(5).
وساهم العالم التكنولوجي في تسهيل التواصل من أجل استعمال المتع والترفيه دون حاجة للفعل الحقيقي، ولا لتحمل أي مسؤولية، وبعيد عن المراقبة، ومن اللافت للنظر انسحاب الرجل عن دوره المحوري، وتراجع السلطة الأبوية أمام توحش النساء وهيمنتهم على الواقع الحقيقي وفي المواقع الإلكترونية؛ مما تسبب في تزايد العدائية والعنف داخل الأسرة، وساهمت البيئة الرقمية في تمرير مخططات شيطانية، لتوحيد خصوصيات الذكورة والأنوثة في كل شيء كنوع من التمهيد للتحول الجنسي، والتخنث والميوعة والديوثة الإلكترونية!
وأيضاً نجد تجاوراً رهيباً بين ثقافة النصائح وثقافة الفضائح، من جهة طغيان المواد التحفيزية لصنع حياة أفضل التي تقدم إشباعاً غير طبيعي للتوجيه والإرشاد، وبجرعات مكثفة تجعل المتابع يعيش نرجسية فظيعة، ويظل لوقت طويل مخدراً بوهم الإنجاز، أو يعيش احتقاراً للذات ويشعر بالعجز عن الإنجاز بالمقارنة مع النماذج المؤثرة.
ومن جهة أخرى، طغيان المواد الإباحية وصورة الجسد العاري، وتمجيد الرذائل والتفاهة من أجل تحقيق الأرباح والمجد والشهرة، وكأننا في سوق كبيرة تبيع الأفكار والأجساد وكل شيء وفي كل العالم، تختصر الزمان والمكان والأشخاص وتعيد صياغتهم من جديد.
وفي الأخير، يمكن أن نقول: إن الوحشية هي فرط تقديس الأشكال والأشياء والأهواء والإتخام في التنقل عبر المنصات الإلكترونية بلا خطة ولا منهج، والغور في الأوهام دون حساب لأهمية النهوض للعمل الحقيقي، والتقدم ولو خطوة إلى الأمام، التوحش هو نوع من تبلد المشاعر والافتقار للتعاطف مع القضايا المصيرية للأمة.
وبصراحة، يعد طابع السهولة والسيولة الذي رافق البيئة الرقمية من أكبر التحديات التي عرفتها البشرية؛ سهولة التواجد في أماكن كثيرة، سهولة تحصيل المعارف والمعلومات الغزيرة، ومن مشارب عدة في وقت واحد، سهولة التلاقي والتواصل، التساهل في المرتكزات والثوابت، والابتعاد عن الله والقيم الربانية.
إنه تحدٍّ لوعي الإنسان بالزمان والمكان وبالقيم والأخلاق، وتحدٍّ أكبر لأنظمة العقل البشري الذي صار يعرف أكثر مما يعمل، وكأنه في معترك حرب نفسية شرسة، إن لم يمت فيها سيصاب بالجنون والتوحش في عالم هلامي شديد السيولة، يحارب الهوية والمرتكزات، ويقتل الإنسان والإنسانية.
_________________________
(1) زيغمونت باومان، الحب السائل (عن هشاشة الروابط الإنسانية)، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رؤوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2016م، ص 20.
(2) فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية، مؤسسة هنداوي، 2024م، ص 168 – 169.
(3) أشيل مبيمبي الوحشية (فقدان الهوية الإنسانية)، ترجمة نادرة السنوسي، دار الروافد الثقافية ناشرون، بيروت، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى 2021م، ص 25.
(4) المرجع السابق، ص 26.
(5) د. عبدالوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2010م، ص 11.