كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند مولده ما لفت أنظار الموجودين من أقربائه ومن القارئين عن نبوته حتى شاعت الكلمة المعرفة، إن لهذا الغلام شأناً، وكان من شأن رسول الله ما انتفع الناس بوجوده قبل بعثته، تمثلت هذه المنافع في صور متعددة، منها:
أولاً: عتق ثويبة الأسلمية:
كانت ثويبة الأسلمية جارية عند أبي لهب، فلما وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم سارعت إلى سيدها فبشرته بمولد المصطفى، فأعتقها سيدها فرحاً وسعادة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عروة قال: كانت ثويبة مولاة أبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُرِيه بعض أهله بِشَرّ خيْبة فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعد رخاءً، غير أني سقيت في هذه وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه بعَتَاقَتي ثويبة(1)، فكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الخير والسعادة على ثويبة؛ لأن مولده كان سبباً في عتقها وتحريرها من ذل العبودية.
ثانياً: إزالة العقبات من على الطرقات:
كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم وما انتفع الناس به، أن قومه كانوا في سفر فمنعتهم دابة في الطريق، فكان صلى الله عليه وسلم سبباً في إزالة هذه الدابة، فقد خرج في سفر مع عمه الزبير، فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز، فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله -صدره- فنزل عن بعيره وركبه فسار حتى جاوز الوادي ثم خلى عنه، فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق فوقفوا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «اتبعوني»، ثم اقتحمه فاتبعوه فأيبس اللَّه الماء -تجمدت- فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك، فقال الناس: إن لهذا الغلام شأناً(2)، فقد انتفع الناس به صلى الله عليه وسلم في ذهابهم بأن أزال عنهم الدابة، وفي عودتهم بأن تجمد الماء فعبروا سالمين.
ثالثاً: بركة الرزق:
تمثل الرزق المبارك للناس بسبب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته في صور، منها:
– بركة في الدواب وإدرار اللبن:
كانت المرضعات تنتقل من البادية إلى الحضر بحثاً عن رضعاء، ابتغاء المال، وكانت مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم المشهورة حليمة السعدية جاءت من البادية إلى مكة بحثاً عن رضيع مع نسوة مثلها، إلا أنها جاءت بدابة هزيلة تأخرت بها عن باقي أقرانها من النسوة، وكان لديها ولد كثير البكاء، وناقة ليس بها لبن.
ودخلت النسوة مكة وخرجت كل واحدة منهن برضيع وتركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عرضه عليهم لليتم وقلة المال، إلا أن حليمة السعدية أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم تجد سواه، ولم تكن تظن أن البركة كلها معه والانتفاع به آت.
فكان من الانتفاع به صلى الله عليه وسلم ما قالته حليمة السعدية: فما هو إلا أن أخذته فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب ما شرب، وشربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة.
فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه؟! فلم يزل الله عز وجل يزيدنا خيراً، ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فو الله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار حتى إن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟! فأقول: نعم والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأناً!
حتى قدمنا أرض بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح، ثم تروح شباعاً لبناً، فنحلب ما شئنا وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعاً حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم: ويحكم! انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فتروح أغنامهم جياعاً ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامي شباعاً لبناً نحلب ما شئنا، فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتيه، فكان يشب شباباً لا تشبه الغلمان(3).
فقد انتفعت السيدة حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم بأن شفى الله لها دابتها بعد أن كانت مريضة، ومنح الله ناقتها لبناً، كما أدرّ الله لثدييها طعاماً لولدها، فسكت بعد بكاء ونامت هي وزوجها بعد تعب وسهر، وأنبت الله لأغنامها العشب، فكان نفع رسول الله صلى الله عليه وسلم للبشر والحيوانات.
– بركة في الطعام:
كان الطعام يكفي ويزيد بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجالسين، وإن غاب ينقص، لما توفي عبدالمطلب تولى أبو طالب رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان دائماً معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج فيخرج معه، وجلب به أبو طالب معروفاً لم يحدث له من قبل، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يغديهم قال: كما أنتم حتى يأتي ابني، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك(4)، فالانتفاع برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته شعر به أقرب الناس إليه لذا دافعوا عنه بعد بعثته وإن لم يؤمنوا به.
رابعاً: حل المشكلات:
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم دور بارز في حل المشكلات قبل الإسلام، من هذه المشكلات أنْ أرادت قريش هدم الكعبة وبناءها، حرصاً على مكانتها، واتفقوا على ألا يدخلوا في بنائها إلا طيباً، فلا يدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، وأخذو يبنونها، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، فمكثت قريش أربع ليال، أو خمساً.
ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا، وتناصفوا، فزعم بعض أهل العلم والرواية أن أبا أمية، وكان كبيراً، وسيد قريش كلها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل عليكم من باب المسجد، فلما توافقوا على ذلك، ورضوا به، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا.
فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، فقال: هلموا ثوباً، فأتوه به، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فيه بيديه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعاً، فرفعوه حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم بنى عليه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى في الجاهلية الأمين قبل أن يوحى إليه(5)، بهذا انتفع الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم انتفاعاً مهماً لفت أنظار الذين حوله، تهيئة للرسالة القادمة من الله تعالى، ولمجيء النور الذي يبثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط الظلام الذي استكان فترة طويلة من الزمن، ولن يقوم بمحوه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي السماوي.
___________________
(1) رواه البخاري (5101).
(2) الوفا بأحوال المصطفى: ابن الجوزي (1/ 101).
(3) البداية والنهاية: ابن كثير (3/ 411).
(4) المرجع السابق (3/ 433).
(5) السيرة النبوية: ابن إسحاق (2/ 108).