أَوْردَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدّينَوَري، أنه قَالَ: كُنْتُ أُكَارِي عَلَى بَغْلٍ لِي مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَلَدِ الزّبَدَاني، فَرَكِبَ مَعِي ذَاتَ مَرَّةٍ رَجُلٌ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ، عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكَةٍ، فَقَالَ لِي: خُذْ فِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا أَقْرَبُ، فَقُلْتُ: لَا خبرَةَ لِي فِيهَا، فَقَالَ: بَلْ هِيَ أَقْرَبُ، فَسَلَكْنَاهَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَكَانٍ وَعْر وَوَادٍ عَمِيقٍ، وَفِيهِ قَتْلَى كَثِيرٌ، فَقَالَ لِي: أَمْسِكْ رَأْسَ الْبَغْلِ حَتَّى أَنْزِلَ، فَنَزَلَ وَتَشَمَّرَ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَسَلَّ سِكِّينًا مَعَهُ وَقَصَدَنِي، فَفَرَرْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَتَبِعَنِي، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ وَقُلْتُ: خُذِ الْبَغْلَ بِمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ لِي، وَإِنَّمَا أُرِيدُ قَتْلَكَ، فَخَوَّفْتُهُ اللَّهَ وَالْعُقُوبَةَ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَاسْتَسْلَمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْتُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتْرُكَنِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَ: صَلِّ وَعَجِّلْ.
فقمت أصلي فَأنسيت الْقُرْآن فَلَمْ يَحضرني مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ، فَبَقِيتُ وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا وَهُوَ يَقُولُ: هِيهِ، افرُغ، فَأَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}، فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ فَمِ الْوَادِي، وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ، فَرَمَى بِهَا الرَّجُلَ فَمَا أَخْطَأَتْ فُؤَادَهُ، فَخَرَّ صَرِيعًا، فَتَعَلَّقْتُ بِالْفَارِسِ وَقُلْتُ: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ الله الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْبَغْلَ وَالْحَمْلَ وَرَجَعْتُ سَالِمًا(1).
في هذا الموقف بيان لإغاثة الله تعالى عباده المؤمنين، وتفريج الكرب عن المكروبين، وقد دعانا الإسلام إلى التعبد لله تعالى بهذه العبادة التي تعني مساعدة المحتاجين وكشف الهموم عن المهمومين، فإن في ذلك فوائد عظيمة يتحصل عليها المسلم في الدنيا والآخرة، ومن ذلك ما يأتي:
أولاً: إغاثة المكروب:
إن الله تعالى أوضح في القرآن الكريم أنه يكشف الكرب عن المكروبين، حيث قال تعالى: (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) (الأنعام).
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم أن إغاثة المكروب من أحب الأعمال إلى الله، ففي صحيح الترغيب والترهيب عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحبُّ الناسِ إلى الله أنْفَعُهم لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعْمالِ إلى الله عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدْخِلُه على مسلمٍ، تَكْشِفُ عنه كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عنه دَيْناً، أوْ تَطْرُدُ عنه جُوعاً، ولأَنْ أَمْشي مَعَ أخٍ في حاجَة؛ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ في هذا المسجِدِ -يعني مسجدَ المدينَةِ- شَهْراً».
ثانياً: الاقتداء النبي:
لقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس بإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج، وشهدت بذلك السيدة خديجة رضي الله عنها، حين نزل الوحي عليه أول مرة، ورجع إلى بيته، حيث زوجته خَدِيجَة، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، وقَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، قَالَتْ لَهُ: كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، وَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ(2).
ثالثاً: المحافظة على النعم:
إن الله تعالى يختبر أهل النعم باحتياج الناس إليهم، فإذا وفوا بحاجات الناس وأعطوهم وأغاثوهم حفظ الله نعمه فيهم، ففي الحديث الشريف الذي رواه الطبراني عن ابن عمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ عَبَّادًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ، فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ»، وقال علي بن أبي طالب لجابر بن عبدالله الأنصاري: يا جابر؛ من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب لله عرضها للزوال(3).
رابعاً: دفع الكروب:
إن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وإن إغاثة المكروب من العبادات التي أكد الدين الحنيف أن الله تعالى يجازي فاعلها خيراً بسبب فعله، فيغيثه عند لهفته ويهيئ له من يفرج عنه كربه، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
خامساً: الوقاية من مصارع السوء:
روى الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ».
سادساً: إغاثة المكروب صدقة:
أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن إغاثة الميكروب نوع من الصدقة، ففي صحيح ابن حبان عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ لَكَ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ لك صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالَةِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ».
سابعاً: تثبيت الأقدام يوم القيامة:
في صحيح الجامع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى مَعَ أخِيهِ المُسْلِمِ فِي حاجَتِهِ حَتَّى يُثْبِتَها لهُ أثْبَتَ الله تَعَالَى قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلُّ الأقْدَامُ».
ثامناً: تحصيل الأجر والثواب:
روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ»، والشفاعة هنا يقصد بها تيسير أمور الناس والسعي لقضاء حوائجهم.
تاسعاً: الوقاية من الخذلان:
حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من تقصير القادرين في قضاء حوائج الناس وإغاثة المكروبين، ففي صحيح الجامع، قَالَ عمرو بن مرة لمعاوية: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلاَّ أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ»، قال: فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ، ففي عدم الإغاثة خذلان للمسلم، وفيه ما فيه من العقاب من ربِّ العالمين.
ومن ثَمَّ كان تحذير النبي صلى الله عليه وسلم شديدًا لمن تقاعس عن نصرة أخيه المسلم؛ ففي صحيح الجامع عن جابر بن عبدالله، وأبي طلحة الأنصاري قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ».
عاشراً: دخول الجنة:
أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن إغاثة المكروب سبيل إلى دخول الجنة، ففي صحيح البخاري، ومسلم، عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ، فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمَعْسُورِ، فَقَالَ: تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي».
_____________________
(1) تفسير ابن كثير (6/ 205).
(2) متفق عليه.
(3) المستطرف في كل فن مستطرف: شهاب الدين الأبشيهي، ص 126.