في المقال السابق، تحدثنا عن الإعجاب بالنفس (النرجسية)، وعرفنا كيف أن إهمال علاج الإعجاب بالنفس يؤدي إلى الوقوع فيما هو أخطر منه «الخُيَلاء»؛ وهو ما يسمى في لغة العوام بالغُرُور، والخُيَلاءُ مصدر خالَ، يقال ذهَبت به الخُيَلاءُ: أي أزالته عن وقاره فتمادى في الكبرياء والعُجب، ويمشي الخُيَلاء: يمشي مشية المتكبِّر المُعجَب بنفسه، وفي الحديث: «لا ينظرُ اللهُ يومَ القيامةِ إلى من جرَّ ثوبَه من الخُيلاءِ»(1).
والخُيَلاء في اصطلاح المربين: إعجاب المرء بنفسه إعجاباً يصل إلى حد احتقار أو استصغار كل ما يصدر عن الآخرين بجانب ما يصدر عنه، وقد قيل: إن حسن السَّمْتِ وطول الصَّمْتِ ومشى القصدِ من أخلاق الأتقياء، وإن سوء السَّمْتِ وترك الصمتِ ومشى الخُيلاء من أخلاق الأشقياء(2).
عاقبة الخيلاء
ولا يخفى على السائرين في الطريق إلى الله تعالى عاقبة الإصابة بالخيلاء، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، فعلى مستوى الفرد؛ الوقوع في مصائب المراء والجدل؛ ذلك لأنه شديد الحب لذاته، ومن ثم فإنه يدافع عن رأيه بالحق والباطل، ويحتقر آراء من حوله، ويضيع الوقت دون أن يجني أي فائدة، ولعل هذا بعض سر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المراء بقوله: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» (صحيح أبي داود، 4800).
والنتيجة الطبيعة للخيلاء الوقوع في حبائل التكبر في الأرض بغير الحق، والاستبداد بالرأي، وعدم قبول الرأي الآخر.
أما على مستوى المجتمع؛ فإنه يؤدي إلى تعطيل العمل الإسلامي وانصراف الناس عنه؛ ذلك لأنهم لم يروا من المنتسبين إليه إلا كل تكبر وتعالٍ.
كيف يعرف الفرد أنه أصيب بالخُيَلاء؟
إذا وجد الفرد في نفسه مظهراً من المظاهر التالية فقد أُصيب بالخُيَلاء:
– تسفيه آراء وأعمال الآخرين حتى وإن كانت خيراً.
– كثرة الحديث عن النفس، مع مدحها والرفع من شأنها.
– صعوبة قبول الحق والانقياد له حتى وإن كان صادراً عمن هو أهله.
أسباب الإصابة بالخُيَلاء
للوقوع في هذا العائق أسباب كثيرة، نذكر منها:
– إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة: ذلك أن البعض قد يصاب بالإعجاب بالنفس، إلا أنه يهمل نفسه حتى يتمكن هذا الداء منه ويتحول إلى احتقار أو استصغار ما يقع من الآخرين، ولعل هذا هو بعض سر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر: 18).
– الغلو أو التشدد في الدين: ذلك أن البعض قد يُقبِل على منهج الله في غلو وتشدد، وبعد فترة من الزمان ينظر حوله فيرى غيره من العاملين يسلكون المنهج الوسط؛ فيظن لغفلته أو عدم إدراكه لطبيعة الإسلام أن ذلك تفريط منهم، ويتمادى الأمر به حتى يحتقر ويستصغر كل ما يصدر عنهم.
– تذكر الطاعات ونسيان المعاصي والسيئات: ذلك أن المسلم عندما يتذكر طاعته لله تعالى دائماً في الوقت الذي ينسى فيه معصيته فلا بد أن العاقبة تكون الوقوع في الخيلاء، ولعل هذا هو بعض سر قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {60} أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون).
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا تقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون» (أخرجه الترمذي، 3175).
– الخلود إلى الدنيا: ذلك أن البعض قد ينتبه إلى ما وقع فيه من إعجاب بالنفس، بيد أنه لخلوده إلى الدنيا وفرحه بها لا يستطيع أن يجمع همته لعلاج نفسه، وبمرور الزمن يتحول الإعجاب بالنفس إلى الداء الأكبر؛ «الخُيلاء».
والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أن كثيراً من الآيات وضعت الدنيا في حجمها الطبيعي، قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20)، وقال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) (الكهف: 45)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) (يونس: 7).
– مبالغة بعض الصالحين في إخفاء أعمالهم، وحينما يراهم من لم تنضج تربيته على هذه الحال فيظن أن عمل هؤلاء قليل بجانب عمله، ويظل هذا الظن يشغله حتى يقع في أحبولة الإعجاب بالنفس ثم الخيلاء، ولعل دعوة الإسلام إلى إبراز الأعمال الطيبة والتعرض بها للناس لتكون دعوة لهم على الطاعة، هو بعض سر قوله تعالى: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 271).
العلاج
يكمن علاج هذه العقبة فيما يلي:
1- الوقوف على العواقب، والآثار المترتبة على الخُيلاءِ، فإن الوقوف على ذلك مما يحرك النفس من داخلها، ويجعلها -إن كان لا يزال فيها خير- تسعى جاهدة للتخلص من هذا الداء، قبل أن يأتي يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
2- التوسط والاعتدال في كل شيء، حتى في الطاعات، والمباحات؛ حتى لا يترك سبيلاً لدخول الخُيلاء إلى نفسه، أو القعود وترك العمل.
3- الإيمان بأن الأعمال الصالحة وإن كانت لازمة؛ إلا إنها ليست سبب النجاة، وإنما النجاة تكون بفضل الله تعالى، وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم بتعبير الإدخال، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) (النساء: 57)، وقال تعالى: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) (إبراهيم: 23).
4- دراسة سير وأخبار السلف الصالح، ومعرفة كيف كانوا يعملون العمل الكثير المُراعى فيه الصدق والإخلاص، ثم لا يُعولون عليه، بل إنهم كانوا يتهمون أنفسهم بالتقصير، فإن ذلك يُبعد المرء عن الخُيلاءِ ويدعوه إلى الاقتداء بالصالحين من سلف هذه الأمة.
رُوي أن ثابتاً بن قيس بن شماس قال: يا رسول الله، لقد خشيت أن أكون هلكت، نهى الله المرء أن يحب أن يُحْمَد بما لم يفعل، وأجدني أحب أن أُحْمَد، ونهى الله عن الْخُيَلَاءِ وأجدني أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ثابت، أما ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة»، فعاش حميداً، وقتل شهيداً يوم مسيلمة(3).
5- محاسبة النفس أولاً بأول، وتأديبها حتى تقلع عن كل الأخلاق الذميمة، ولعل هذا هو سر قوله صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» (أخرجه الترمذي 2459، وأحمد 17164).
6- حرص المحيطين بهذا المبتلى، على إظهار بعض الأعمال الطيبة أمامه حتى لا ينفرد به الشيطان فيهلكه(4).
_______________________
(1) معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر (1/ 713).
(2) الأدب والمروءة، صالح بن جناح اللخمي (1/ 33).
(3) الجامع، معمر بن راشد (11/ 239).
(4) آفات على الطريق، أ.د. السيد محمد نوح (1/ 148)، بتصرف.