يهدي استقراء القرآن الكريم إلى أن حركة التاريخ تحكمها سنة الصراع بين الحق والباطل، يقول الشيخ ابن عاشور: إن «المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جُبِلَ عليها النظام البشري» (التحرير والتنوير، 12/ 192).
وهذه السُّنة التي أقام الله عليها الحياة، يترتَّب عليها مجموعة سُنَنِيَّة مترابطة، مثل: ابتلاء المؤمنين، واستدراج الكافرين، وكون العاقبة للمتقين، وغيرها من السُّنن. وإذا كان الابتلاء واقعًا لا محالة، فإلى أي درجة يمكن أن تصل حدوده؟ وما موقفنا عند اشتداده؟
«أَيْن أَنْت وَالطَّرِيق طَرِيق تَعب فِيهِ آدم، وناح لأَجله نوح، وَرُمِي فِي النَّار الْخَلِيل، وأُضْجِع للذبح إِسْمَاعِيل، وبِيع يُوسُف بِثمن بخس، ولبث فِي السجْن بضع سِنِين، ونُشِر بِالْمِنْشَارِ زَكَرِيَّا، وَذُبِح السَّيِّد الحصور يحيى، وقاسى الضّر أَيُّوب، وَزَاد على الْمِقْدَار بكاء دَاوُد، وَسَار مَعَ الْوَحْش عِيسَى، وعالج الْفقر وأنواع الْأَذَى مُحَمَّد، تزها أَنْت باللهو واللعب!» (الفوائد، 42). بهذه الكلمات يبَصِّر ابن القيم أهل الحق بالتضحيات التي يمكن أن يدفعوها في مسيرة الصراع المستمر بين الحق والباطل؛ ليكونوا على بصيرة من تكاليف الطريق. وكل الأمثلة التي جاء بها ابن القيم كانت للرسل والأنبياء، وهذا من مثبتات القلوب ومؤنساتها؛ ذلك أن أشد الناس بلاء الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ، فإذا كان هذا ما واجهه صفوة الخلق هان على مَن دونهم ما يلاقون.
وعند حديثه عن الابتلاءات التي يمكن أن تواجه الفئة المؤمنة يتحدَّث القرآن الكريم عن بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم في سبيل الله [التوبة: 111]، وابتلائهم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ [البقرة: 155]، ومسيس البأساء والضراء والزلزلة [البقرة: 214]، والإخراج من الديار والأموال بغير حق [الحشر: 8]، إضافة إلى السجن أو الإثبات بتعبير القرآن الكريم [الأنفال: 30، يوسف: 32]، والتحريق بالنار [الأنبياء: 68]، والرجم والهجران ولو من أقرب الناس [مريم: 46]، وسماع الأذى الكثير [آل عمران: 186]. وإذا اشتدَّت المحنة يتحدث القرآن الكريم عن زيغ الأبصار وبلوغ القلوب الحناجر وظن الظنون بالله [الأحزاب: 10]، والزلزلة الشديدة [الأحزاب: 11].
ويصوِّر القرآن شدة الحال عند طول الابتلاء وتأخُّر النصر بالحديث عن استيئاس الرسل من إيمان أقوامهم، ويقينهم أن الأمم كذَّبوهم تكذيبًا لا يصدر معه منهم الإيمان بعد ذلك؛ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
بجانب هذا التأطير النظري يضرب القرآن أمثلة تطبيقية لحجم الابتلاء المتوقع، ففي بعض الحالات طارد الطغاة النبي والذين آمنوا مطاردة جماعية كما في قصة موسى عليه السلام إلى أن أطبقوا عليهم لولا أن أدركهم اللُّطف الإلهي، وفي حالات أخرى امتُحِنوا بتقطيع الأيدي والأرجل من خلافٍ مع الصلب كما فعل فرعون من السحرة المؤمنين، بل واجه المؤمنون أحياناً الإحراق حتى الفناء كما في قصة أصحاب الأخدود.
ولما اشتكى الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ما هم فيه من شدة الابتلاء قائلين: يَا رَسُول اللَّه أَلَا تَسْتَنْصِر لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّه لَنَا؟ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثلًا بإخواننا الذين سبقونا بالإيمان من الأمم السابقة، فقال: «قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ» (صحيح البخاري)، وهذا النموذج الفردي يتحوَّل في السياق الجمعي إلى قصة أصحاب الأخدود بنماذجها القديمة والمعاصرة.
ما سبق نموذج للأثمان المتوقع بذلها في سبيل الحق، سواء كان الطرف الممثل للحق معصوماً كالرسول أو لا، آخذًا بأقصى قدر ممكن من الأسباب أو لا، مُبْدِيًا مرونة في المواقف أو صلابة فيها، جامعًا مع الإخلاص صوابية المسار وحُسْن التدبير أو لا (لأن التضحية في سبيل فكرة مؤشر على قوة الإيمان بها، لكنها ليست بالضرورة دليلًا على صوابها أو حسن تدبير المؤمن بها).
وتؤكد التجارب الإنسانية ما ورد في المرجعية الشرعية من عِظَم التضحيات في سبيل نيل الحقوق. ولست بصدد البحث عن تجربة إنسانية لأقيس عليها قضيتنا الفلسطينية، إيمانًا مني بأنها معقَّدة بشكل كبير، بما يجعلها أصلًا يُقاس غيرُه عليه، لا فرعًا يطلب أصلًا مشابهًا، الأمر الذي يجعل هامش التضحيات فيها مرتفعا. وهذه ملاحظة أبداها الزعيم الصيني ماوتسي تونغ لوفد من حركة «فتح» زاره في العام 1964م: «لقد درست قضيتكم والظروف المحيطة بها بدقة، إنها قضية صعبة تتداخل فيها المشكلات تداخل أسنان القرش، إذا تمكنتم من تفجير ثورة والاستمرار بها فإني سأكون سعيدًا لدراسة قوانين جديدة لحرب شعب في ظروف لا تنطبق عليها قواعد حرب الشعب التقليدي».
وتزيد شدة الابتلاء إذا وقعت في نسق زماني يحفِّز على ذلك، مثل تغير قواعد النظام الدولي الذي يتم عادة عبر الحروب الدامية. فمثلا: يتعرَّض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية حاليًّا لمخاطر التقويض بما يهدِّد استمرار هيمنة أمريكا عليه، الأمر الذي يعني أننا الفترة القادمة ستشهد مزيدًا من الحروب والأزمات الاقتصادية.
لكن ماذا لو اشتدَّ الابتلاء، هل هذا سبب للاستسلام أو للثبات؟ يقول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)؛ تحكي هذه الآية أنه مسَّ الرسول (المراد بالرسول -كما يقول الآلوسى- الجنس لا واحد بعينه) والذين آمنوا معه البأساء (الشدَّة تصيب الإنسان في غير نفسه، كالفقر ومصادرة المال والإخراج من الديار والتهديد الأمني) والضَّراء (ما يصيب الإنسان في نفسه، كالمرض والسجن والجراح والقتل) والزلزلة (الخوف الشديد من الأعداء)، فلما تناهت الشدة عليهم استبطؤوا نصر الله مع يقينهم به، وتساءلوا: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ»، ولم يكن سؤالهم عن شك وارتياب، بل كان لاستعجال النصر، وهذا المشهد غاية الغايات في تصوير شدة المحنة؛ وذلك لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء، فإذا لم يسبق لهم صبر حتى ضَجُّوا، كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة، وقد أُجِيبُوا من قِبَل اللَّه (أَلَا إنَّ نَصْر اللَّه قَرِيب).
إن هذا الجواب الإلهي يرشد إلى أمرين، الأول: بعث الأمل في قلوب الفئة المؤمنة؛ فنصر الله قريب؛ لِأَنَّهُ آتٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. والثاني: الدعوة للثبات والصبر وتحمُّل المشاق في طلب الحق؛ فإن تقدير الآية: أن الرسول والذين آمنوا معه لازمهم مسيس البأساء والضراء والزلزلة إِلى أن أتاهم نصر الله، ولم يُغَيِّرْهُم طول البلاء عن دينهم، ورسالة الآية للنبي وأصحابه: وأنتم يا معشر المسلمين كونوا مثلهم، اثبتوا على الحق، وَتَحَمَّلُوا الأذى والمشقة في سبيله إلى أن يأتيكم نصر الله القريب. ولهذا جاء الأمر الرباني بوجوب الثبات عند لقاء العدو؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) (الأنفال: 45)، فالثبات بدء الطريق إلى النصر، وأثبت الفريقين أغلبهما.
سقيناهمُ كأسًا سَقَوْنا بمثلها ولكننا كنَّا على الموت أصبرا
والمقصود أن شدة الابتلاء مدعاة للثبات على طريق الحق لا للنكوص على الأعقاب، مع ملاحظة وجوب الأخذ بوسيلتي البقاء: الاعتماد (التوكل على الله في السياق الإسلامي) والاستعداد (الأخذ بالأسباب)، اللتين من أخذ بهما كُتِب له البقاء ولو كان كافرًا، ومن فرَّط فيهما أو في إحداهما خُشِيَ عليه الفناء.
صحيح أن موازين القوى المادية ليست لصالحنا، لكن هل يعتبر هذا مبررًا للاستسلام وإضاعة الحقوق والقَبول بالهزيمة والإذلال وربما الفناء، تحت ضغط الأمر الواقع؟! بالعكس، إن وجود موازين القوى على هذا النحو الظالم تشكِّل سببًا جوهريًّا للمقاومة من أجل تغييرها.
لا شك أن العقلية الصهيونية المتعجرفة ستسبِّب كثيرًا من المعاناة والضحايا والدمار، في محاولة تطويع المنطقة واستعباد شعوبها، ولكن لا خيار أمام الشعوب الحرة سوى المقاومة لانتزاع حريتها وتحرير أرضها ومقدساتها.
في السياق الفلسطيني، يكمن الرهان على استمساك الفلسطيني بأرضه، وقدرة المقاومة على الاستمرار في أدائها القوي الفعَّال، مهما كانت التضحيات؛ وهو ما سيفرض استمرار استنزاف الكيان على مختلف الأصعدة، حتى إجباره على النزول على شروط المقاومة.