إن نوعية المعرفة التي يتلقاها الإنسان عن نفسه في مراحل التنشئة وعبر وسائط التشكيل الاجتماعي ينعكس أثرها في بناء تصوراته ومفاهيمه وقيمه، وهذه تنعكس بالتالي في طريقة التفكير وتكوين الإرادة، التي تتجسد في مرحلة ثالثة في السلوك الإنساني، فكل سلوك للإنسان إنما يكون انعكاسًا بالأساس لنوعية المعرفة التي يعتقد فيها ويؤمن بجدارتها.
وبصفة عامة، يمكن أن نحدد نمطين رئيسين لمعرفة الإنسان، لازمته عبر التاريخ، هما نمط المعرفة الإلهية التي يمثلها في صورتها الخاتمة (القرآن) الكريم، والنمط المقابل هو المعرفة الناكسة (الوضعية) التي خلقتها نماذج الانحراف من العقل البشري في صورة وضعية مضادة لنمط المعرفة الإلهية القرآنية.
المعرفة الإلهية القرآنية.، فرادة الخلق ووحدته
يحدد القرآن طبيعة الخلق الإنساني، وأنه صدر من نفس واحدة، ثم حدث هذا التعدد والتنوع والاختلاف؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء: 1).
ولأن القرآن يقوم في ركيزته الأولى على مبدأ التوحيد، الذي هو الصفة الواجبة لله تعالى، في مقابل تعدد الآلهة وتنوعها التي أظهرها انحراف البشرية وتجاوزها، فإن خلق الإنسان كذلك جاء على مقربة من هذه الشاكلة «وحدة الخلق»، فالخلق جميعًا من مصدر واحد، والبشرية واحدة في أصل وجودها، لا تمييز في اللون أو الجنس أو العرق، فهذه التمايزات كلها تمايزات في الصورة؛ أي الشكل الخارجي، وليست في أصل الخلقة، ولا جوهر الوجود الإنساني، إن جوهر وجود الإنسانية هو تلك الوحدة التي صدرت منها؛ الله، ثم النفس الواحدة.
إن أهم ما يترتب على مبدأ «وحدة الخلق» هي وحدة الحقيقة الاجتماعية التي يجب أن يلتف حولها الإنسان وتعمل في ظلها كل البشرية، وتسعى مجاهدة في إعلاء كل ما يجليها، هذه الحقيقة التي تقوم على مبدئية الكرامة الإنسانية؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، فلا تفاضل بين أي صورة صادرة عن هذا الأصل، أو أي شكل بُث في الكون من هذا المصدر الواحد، أو أي نوع تشكل؛ ذكراً أو أنثى، من هذا الأصل، فالكرامة الإنسانية مجعولة وليست مكتسبة لكل جنس الإنسان وكل ما صدر عن النفس الواحدة.
المعرفة الناكسة
إن ما يعانيه الإنسان في وجوده من طبقية وعرقية وعنصرية يرجع بالأساس إلى جهل الإنسان بتلك المعرفة، واختراعه معرفة وضعية ناكسة؛ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ) (الأنبياء: 65)؛ أي جاهلة وغافلة عن الحقيقة الإلهية والحقيقة الكونية والحقيقة الإنسانية، تقوم على خديعةٍ أُطلق عليها اسم العرقية أو الجنسية «السامية»؛ أي التي تفارق خلق الإنسان الواحد من النفس الواحدة، ومن ثم تتباين المكانة الإنسانية، وفقًا لهذا الاختراع الوضعي، الذي به يتم تقسيم الإنسان إلى طبقات جنسية متعددة تناقض مبدأ الوحدة الإنسانية.
وهذا التقسيم يبيح وضع إنسان في أعلى درجات سلم الإنسانية، وإنسان آخر في أقل درجات هذا السلم، أو ربما يخرجه تمامًا في التعامل العملي من سلم الإنسانية!
إن العرقية والطبقية «السامية» يتشبع واضعها بإشباعات من التضخم والغرور بحيث تجعله في مرتبة ما فوق الإنساني، وتضع آخرين ما تحت الإنساني، ومن ثم تنفك رباط الإنسانية الواحدة، ورباط الإنسان الواحد إلى إنسانيات متعددة، بل ومتناقضة على طرفي المتصل الوجودي.
إن هذه الطبقية والعرقية الوضعية التي تزيّف الحقيقة الاجتماعية للإنسان، تصنع معها معرفة جديدة لتزييف حقيقة الألوهية –أيضًا- وهي أن هناك لكل جنس من الإنسان -مما اخترعته هذه الطبقية العرقية- إلهًا مختلفًا عن الإله الآخر، وربما يتصارعان ويتنازعان الملك والألوهية، فإن إله الجنس «السامي» مختلف عن إله الجنس غير السامي أو المنحط، بحسب هذه التقسيم الوضعي العرقي المفعم بالجهل والغفلة عن الحقائق جميعًا التي تشكل هذه الكون كله، أو ربما جعلت من الإله الواحد الذي خلق جنسين من الإنسان؛ سامياً ومنحطاً؛ إلهًا طبقيًا، لا يتسم بالعدالة بين الخلق الواحد الإنسان، فيحابي ويتحيز لبعض الإنسان وينبذ ويحتقر البعض الآخر!
وهذا الإله الـمُخترع من قبل هذه المعرفة الوضعية العنصرية هيأ الحياة لصراع دائم لا ينتهي بين الإنسان ذاته، وهيأ الكون للصراع بين الإنسان وباقي المخلوقات طالما وجدت فكرة (نحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (المائدة: 18)، في مقابل فكرة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).
خلق الصراع
يترتب –أيضًا- على الجهل والغفلة بحقيقة وحدة الإنسان، خلق الصراع الكوني، والتأطير لهذا الصراع اجتماعيًا؛ أي بين الإنسان والإنسان، وكونيًا بين الإنسان والطبيعة، وذلك لأن وحدة الإنسان – هذه الحقيقة التي تناهضها العرقية السامية- إنما يترتب عليها النظرة المتآلفة للكون، ومبدأ الانسجام والتناسق بين المخلوقات جميعًا الإنسان مع نفسه، والإنسان مع الطبيعة وباقي المخلوقات، بينما تقوم النزعة العرقية السامية على نسف هذه المبادئ التي تترتب على مبدأ وحدة الإنسان، وتقوم بإحلال الصراع كحالة عامة ودائمة ومستمرة بين مكونات الكون (الإنسان ضد الإنسان)، و(الإنسان ضد الطبيعة بكل عناصرها).
إن حالة تأجيج الصراع الكوني هو غاية للاتجاه الوضعي الطبقي للإنسان، الذي تفقد معه الإنسانية طاقتها وحيويتها، حيث يستنزف هذا الصراع ما تمتلكه الإنسانية من طاقة وحيوية موجهة نحو العمران الإنساني الشامل، وتوظيف القدرات، وتطويع الطبيعة المسخرة بالأساس للإنسان، لكن هذه التوجهات العمرانية والإنسانية تصطدم بحالة الصراع التي اخترعتها الفئة الغافلة الجاهلة بحقيقة الألوهية وبالحقيقة الاجتماعية والكونية، وترغب في توجيه الإنسان إلى هذا الاستنزاف بحيث يسهل السيطرة عليه وإخضاعه إلى الرؤية الوضعية الطبقية للإنسان.
الغرب والمعرفة الناكسة
احتضن الغرب المعاصر هذه المعرفة الناكسة وجمع كل ميراثها التاريخي وهيأ لها البيئة المناسبة للنمو والتمدد والانتشار والكينونة -أي تحويلها إلى كيانات قائمة- ثم تجسدت هذه المعرفة الناكسة في أطر العلم والتكنولوجيا والأفكار والاتجاهات، وابتكر الغرب ما يعتقد أنها مبررات للعنصرية الطبقية التي رعاها: الداروينية الاجتماعية، وشعارات البقاء للأصلح (الأقوى)، والغلبة، والقوة المدمرة، والرأسمالية، والماركسية، والثنائيات التي لا نهاية لها: الديني والدنيوي، العلم والأخلاق، المادي والروحي، الواقع والمثال، القيمة والحقيقة، الفرد والمجتمع، الأبيض والأسود.
كما ابتدع الغرب مدارس فكرية معادية للإنسان تقوم على تفتيت مبدأ وحدة الإنسان ومبادئ علاقاته مع الطبيعة، فظهرت مدارس علم النفس، ومدارس الحداثة وما بعد الحداثة، والعولمة، ومدارس الفن والأدب التي راحت هي الأخرى تصنع مبررات فلسفية وفكرية زائفة تخدم بكل فجاجة الاتجاه الوضعي الطبقي للإنسان الذي يرى أن هناك منشأين لخلق الإنسان؛ منشأ سام مخلوق من دم فريد، ومنشأ منحط مخلوق من دم مشوه وخليط.
وابتدع الغرب في ظل المعرفة الناكسة عن الإنسان تقسيم العالم الاجتماعي إلى شطرين متناقضين يظل كلاهما في حالة من الصراع واستنزاف الطاقة والحيوية الإنسانية، بسبب إصراره على الجهل بحقيقة الإنسان الواحدة، وحقيقة الكون الواحدة، وحقيقة الألوهية الواحدة.
وظهرت المعرفة الناكسة وتأسست في ضوئها كل هذه المدارس والأفكار في ظل اتجاه فكري واحد يقوم على خسف الطبيعة الإنسانية بكل ما تحمل من تكامل ووحدة وتآلف وانسجام وتناغم بينها وبين الطبيعة، ليحل محلها طبيعة إنسانية أخرى تقوم على تأجيج الصراعات، والنزاعات والتدمير الإنساني، وتقديم هذا النموذج الناكس للعالم باعتباره نموذجًا إرشاديًا –قهريًا وقسريًا وحصريًا- يجب الاعتقاد فيه واتباعه وممارسة كل أنواع السلطة المادية والفكرية والسياسية والاجتماعية التي هيمن عليها الغرب بكل سهولة وبدون مقاومة.