لو لم يكن في الحياة ما نجهله ونسعى إليه.
لو كان كل شيء في متناول حواسنا وأفكارنا، نمد البصر فنراه، ونرهف السمع فنسمعه، ونعمل العقل فندركه.
لو كان الأمر كذلك؛ لانعدمت قيمة الحياة أو ما يشعر به الإنسان أنه إنسان، وأن لوجوده لذة يستطيبها ويستزيد.
لو كان الأمر كذلك؛ لما كان من الممكن أن تستمر حياتنا، وتسير بنا عجلاتها ماضية إلى غاياتها كل هذه السنين الطوال مذ شاء الله عز وجل أن توجد على الأرض حياة.
أجمل ما في الوجود أننا لا نعلم كل ما في الوجود.
هناك دومًا جوانب خافية مستورة تستحثنا للبحث، وتستثير نهمنا للمعرفة، والكشف عن المجهول، هذا هو السر؛ سر استمرارية الحياة وديمومتها.
ويوم نصل فرضاً إلى الحقائق المطلقة وندرك ما خفي علينا من المغيبات أو أكثر ما خفي علينا من شؤون هذه الحياة، فإن هذا اليوم ربما كان هو حيث تبدأ حياتنا الباقية، الحياة الخالدة، التي يعلم فيها الناس؛ كل الناس، كل شيء عن أي شيء إلا ما شاء الله.
وعلى هذا، فإنه مهما بذلنا من وقت وجهد لنعرف ما شاء الله أن يحجبه عن أنظارنا، وفكرنا مما تضمه ألواح الغيب، مهما بذلنا من محاولات للتوصل إليه، فلن يجدينا البحث شيئاً كثيراً، وقصارى ما سنفعل أننا سنكرر ما سبقنا إليه آخرون ممن أدرك أن:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعى العالمين ضلال
نعم، قد ندرك بعد البحث المضني في غمار ما قدر الله أن يبقى سراً لا يذاع؛ أن لا جديد تحت الشمس إلا صياغات حديثة لأفكار غاية في القدم.
فالفشل حليف الإنسان غالباً –أو دائماً إن شئت الدقة- في رحلة البحث فيما وراء الحواس، فيما وراء المعقول، ومن ثم اقتضت حكمة الخلاق العظيم أن يريح الإنسان من وعثاء وعناء تلك المخاطرة الشاقة؛ فتكفل سبحانه وتعالى بإراحة النفوس الطلعة، التي أراد لها سبحانه أن تكون كذلك بإطلاعها على ما تطيقه من تلك الحقائق العليا عن طريق رسالاته المتكررة ورسله إلى الناس، لكي يتفرغوا، وقد ارتاحت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم وعقولهم لما هو أجدى لهم كبشر؛ أو لما خلقوا من أجله على هذه البسيطة تحديداً.
لقد خُلِقَ الناس لرسالة محددة، وكرمهم الله بوصفهم خلفاء عنه في الأرض للقيام بتلك المهمة دون سواها ألا وهي تعمير الأرض، والانتفاع بها وفق إرادة الله، والقيام على ما أودعه الباري فيها من كنوز ومخلوقات قيام الخليفة المؤتمن المدقق لا العابث النزِق، وبحسن قيامه بتلك المهام يكون في طرف من عبادة الله فيها، يكمله بتلك العبادات التكليفية المحضة من صلوات وصيام ونسك مما يستهدف الارتقاء بذاته، وتأهيلها لما أنيط بها من مهام ومراتب للدنيا والآخرة، وهذا جميعه جهد يستحق أن تنصب إليه همم النفوس، وتنصرف إليه طاقات العقول.
وآه لو وعت أمتنا هذا الدرس مبكراً في سنوات العجز والتخلف، التي انصرفت فيها العقول والنفوس إلى غير سبيل الهدى والرشاد، فضاعت خطواتها في مضمار الحياة، وسبقتها أمم وعت الدرس على نحو من الأنحاء.
حقاً، إن «أكثر الناس لا يعلمون»، و«أكثرهم لا يعقلون» في أكثر الأحيان، فلا يكتفون بما شاء الله أن يطلعهم عليه؛ لمناسبته لقدراتهم وملكاتهم التي زودهم بها الخالق الحكيم، وموافقته لطبائعهم التي فطروا عليها، بدلاً من ركوب الصعبة والذلول في رحلة التخبط في ظلمات المجهول بهدف الوصول إلى ما اقتضت مشيئته الحكيمة لأسرار نجهلها حالياً أن يبقى مخبأ مستوراً عن خلقه، فمهما ضربوا في أجواز المجهول الغامضة فما هم بواصلين.
وها هي نتائج مغامراتهم المتكررة عبر التاريخ؛ غثاء يضرب بعضه بعضاً لا يبل صدى ولا ينقع غلة، ولا يقضي على قلق الإنسان الوجودي في رحلة بحثه عن إجابات شافية مقنعة للأسئلة التي طالما حيرت لبه منذ فجر التاريخ: من أنا؟ ولماذا خلقت هنا؟ وخلق كل ما حولي في هذا الكون الفسيح العجيب؟ ومن وراء خلقي؟ وكيف هو؟ وأين؟ وإلى أين أمضي؟ وكيف لي أن أسلك على هذه الأرض في علاقتي بخالقي الذي أوجدني إن كان ثمة من خالق، وبنفسي ككائن حي واعٍ بتصرفاتي، وبمن حولي من مخلوقات؟ هل ثمة من دليل أو سبيل قويم؟
إن هؤلاء الذين بحثوا عن إجابات شافية دون أثارة من هدى إلهي؛ ممثلاً في رسالة نبوية، أشبه شيء بمن يركب الريح الهوجاء ليسبح في الفضاء فيقبض في نهاية الأمر على الهواء!
حقاً نحن في حاجة لهَدْي السماء؛ رعاية لسويتنا النفسية والعقلية والروحية، إذ نستريح من عناء السعي في سبيل وعر لا طائل وراء اقتحامه، نحن في حاجة لهَدْي السماء للمعرفة الإلهية الشافية الهادية لنكسب حياتنا حقيقة، وننتفع من تلك الفترة التي أتيحت لنا اختباراً وابتلاءً على ظهر هذه البسيطة، فما أقصرها وما أحرانا بالانتفاع بها على نحو ذكي حصيف! والله الهادي.