التعليم هو المحرك الأساسي لنهضة المجتمعات وتطورها، فهو الذي يصنع الفارق بين أمة نامية وأخرى مزدهرة، ومع ذلك، فإن تطوير التعليم لا يمكن أن يتحقق عبر جهود الحكومة وحدها، بل يتطلب تكاملاً مجتمعيًا واسعًا يُشرك جميع الأطراف، من الأسرة إلى المؤسسات الخاصة والعامة، لتحقيق تقييم موضوعي وشامل للمستوى التعليمي وتحديد المشكلات الحقيقية التي تعيقه، هذا التقييم ليس مجرد عملية نقدية، بل هو خطوة أساسية نحو وضع إستراتيجيات فعّالة لتحسين التعليم وإعداد جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل.
لتقييم التعليم بموضوعية، يجب أن تستند المجتمعات إلى أدوات قياس علمية تعطي صورة دقيقة عن الواقع التعليمي، من بين هذه الأدوات، تأتي الاختبارات الدولية مثل «TIMSS»، و«PISA».
واختبار «TIMSS» يهدف إلى قياس مستوى الطلاب في الرياضيات والعلوم للصف الرابع والثامن، حيث يركز على الفهم العميق للمفاهيم العلمية والرياضية وقدرة الطلاب على تطبيق المعرفة في حل المشكلات، هذه الاختبارات تساعد الدول على تقييم مناهجها التعليمية ومدى كفاءة معلميها؛ مما يُظهر الفجوات التي تحتاج إلى معالجة.
أما اختبار «PISA»، فيُركز على تقييم مهارات الطلاب في القراءة والرياضيات والعلوم عند بلوغهم سن الخامسة عشرة، مع تركيز خاص على قدرتهم على التفكير النقدي وتطبيق المعرفة المكتسبة في مواقف الحياة اليومية، يُستخدم هذا الاختبار كأداة لقياس مدى استعداد الطلاب للانتقال إلى التعليم العالي أو سوق العمل؛ مما يجعل نتائجه مؤشرًا حيويًا على جودة التعليم.
عندما ننظر إلى التجارب العالمية الناجحة في تحسين التعليم، نجد أمثلة ملهمة يمكن للمجتمعات الأخرى أن تستفيد منها، تجربة فنلندا تُعد من أبرز هذه الأمثلة، حيث انتقلت من نظام تعليمي تقليدي في الستينيات إلى نموذج مبتكر يتصدر اختبارات «PISA» اليوم، السر في نجاح فنلندا يكمن في ثقتها الكبيرة بمعلميها، حيث استثمرت في تدريبهم وتأهيلهم بأعلى المستويات، وألغت التركيز على الاختبارات الموحدة؛ ما جعل بيئة التعلم أكثر إبداعًا وأقل ضغطًا.
على النقيض، نجد سنغافورة التي ركزت على التعليم كأولوية وطنية منذ السبعينيات، حيث طورت مناهج تعليمية متقدمة تُركز على التفكير النقدي وحل المشكلات، وربطت بين التعليم واحتياجات سوق العمل؛ ما جعلها في صدارة الدول في اختبارات «TIMSS» و«PISA».
أما كوريا الجنوبية، فقد أثبتت أن الاستثمار في التعليم يمكن أن يكون الطريق الأسرع للنهوض الاقتصادي، حيث اعتمدت على التكنولوجيا والمناهج العملية لتجاوز تحديات ما بعد الحرب، ونجحت في بناء نظام تعليمي يُعتبر الآن من بين الأفضل عالميًا.
لكن، لماذا تنجح هذه الدول بينما تواجه مجتمعات أخرى صعوبات في تطوير التعليم؟ السر يكمن في التكامل المجتمعي والعمل الجماعي، لا يمكن لأي حكومة أن تُصلح التعليم بمفردها دون مشاركة الأسرة، والمعلمين، والمؤسسات الخاصة، فالأسرة تمارس دورًا محوريًا في متابعة مستوى التعليم وتقديم ملاحظات حول الأداء، في حين يمكن للقطاع الخاص أن يُسهم بتمويل المشروعات التعليمية وتوفير برامج تدريبية للمعلمين، كما أن إشراك الطلاب أنفسهم في الحوار حول التعليم يمنحهم الشعور بالمسؤولية تجاه العملية التعليمية.
ولتطوير التعليم بشكل فعال، يجب على المجتمعات أن تتبنى إستراتيجيات شاملة تستفيد من التجارب العالمية وتتكيف مع السياقات المحلية، يمكن أن تبدأ هذه الجهود بإنشاء مجالس مجتمعية تضم ممثلين عن مختلف القطاعات للعمل على تقديم توصيات مستندة إلى بيانات واقعية.
كما أن تعزيز استخدام التكنولوجيا في التعليم يُعد من الأدوات الأساسية لتوسيع نطاق التعلم وتحسين جودته، وبرامج تدريب المعلمين المستمرة ضرورية أيضًا لضمان مواكبتهم لأحدث أساليب التدريس، وأخيرًا، يجب أن تكون المناهج الدراسية شاملة، بحيث تُركز على تعليم الطلاب المهارات الحياتية مثل التفكير النقدي والعمل الجماعي وحل المشكلات.
تطوير التعليم ليس مجرد عملية تحسين المناهج أو بناء المدارس أو تغيير لشخوص القائمين عليه؛ بل هو مشروع وطني يتطلب تكاملًا بين جميع مكونات المجتمع، وكما أثبتت تجارب فنلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية نجاحها، فإن الطريق إلى نظام تعليمي قوي يبدأ من تقييم دقيق وموضوعي للواقع، مع إستراتيجيات إصلاح مدروسة تُطبق بحكمة وإصرار، إذا تمكنت المجتمعات من تحقيق هذا التكامل، فإن التعليم سيصبح الأداة الأقوى لبناء مستقبل مشرق يتسم بالإبداع والتطور.