إن أقصى ما يمكن أن تشعر به خلال عملك الإنساني أن تجد انتهاك الإنسانية يتم بالقانون وأن تمنع من أن تقوم بدورك وتعبر عن إنسانيتك بالقانون.. هكذا الحال في ميانمار.
خلال رحلتي لإغاثة أهلنا في ميانمار على الحدود مع دولة بنجلاديش منذ أكثر من عام لم يكن في مخيلتي أن الأمر على هذه الحالة البالغة السوء، فنحن نسمع عن قتل وانتهاك لكل المعايير الإنسانية لكن أن يصل الأمر أن تمنع من أداء دور إنساني فهذا لم يكن لأحد أن يتخيله.
لم تخل الرحلة التي شاركني فيها صديقي على الكندري “رئيس مكتب جنوب شرق آسيا بالرحمة العالمية بجمعية الإصلاح الاجتماعي” من المواقف التي عندما استرجعها يعجز عقلي من كثرة ما فيها من معاني، تتنوع هذه المعاني بين الألم وبين الفرح وبين الاستغراب، قصص تُحكى لا تقل بشاعة عن واقع تراه بعينك.
أكواخ لكنها سجون
في كوكاس بازار وهي منطقة حدودية بين بنجلاديش وميانمار حطت بنا الطائرة لنفتح عيوننا على جمال الطبيعة الخلابة وهواء طلق منعش ولم نكن نتخيل أن خلف هذه اللوحة الرائعة الجمال يختبئ جبال من الآلام والمأسي.
دخلنا بين الغابات, وفجأة توقف الجميع لتقع أعيننا على أطفال صغار ظهرت عليهم علامات الخوف والقلق اقتربنا منهم نهدئ من روعهم, وهالنا ما رأينا فلم يكن على أجسادهم ما يقيهم البرد أو يسترهم، حفاةٌ أقدامهم الصغيرة مشققة، أخذنا نخرج ما معنا من حلوى، بعدها بدأنا ننتقل إلى أسرهم ليزداد الألم الذي نشعر به, فقد كانت سكناهم في أكواخٍ بالية هي أشبه بالسجن ليس فيها أي دلالات على الحياة، ولن أبالغ إن قلت أنك بالفعل لن تجد في كل جنبات المكان ما يدل على الحياة سوى دمعات العيون التي تراها على وجوههم حتى وإن اصطنعوا الابتسامة.
ومن أصعب المشاهد التي حدثت في الفترة الأولى من البرنامج الإغاثي؛ هو مشهد تلك السيدة التي دخلنا كوخها لنجدها جالسة بين ركامه لا تتكلم فقط توُمئ برأسها؛ لتقدم لنا التحية خجلت أن أسألها عن حالها فقد لخصت عيونها الأمر في كلمات استشعرتها “انظر لهذا الوضع لتعرف حالنا”
قصة إمام المسجد
وفي المساء كان لي لقاء مع أحد الشباب الذين امتلأت نفوسهم بالتضحية والإباء والصبر والثبات، إنه إمام أحد مساجد المسلمين – في ميانمار في إقليم آراكان تحديداً- والذي ذاق من العذاب ما يوجع القلب ويدمي العين من بشاعة الإجرام الذي تعرض له وعائلته لإصراره على عمارة بيت الله “المسجد”, فقد أصر على أن يقوم بخطبة الجمعة وأن يفتح المسجد للصلاة, فكان من قوات الأمن أن ذهبوا إلي بيته وقتلوا زوجه وزوجة أخيه وابنتيها، ورغم أنه استطاع أن ينجو من أيديهم قبل الحادثة إلا أن ما حدث لعائلته قتله ألف مرة, فلم يتوقف الأمر على قتل النساء, بل تُرك الأطفال ليموتوا جوعاً، كان صوته ينتحب من البكاء, وهو يحكي ما لا يمكن أن يتحمله بشر.
هذه صور من ذكريات مؤلمة أكدت لي أن ما يتعرض له مسلمو ميانمار من انتهاكات تمثل صورة مهينة في جبين الإنسانية, خاصة في ظل عدم مراعاة تقديم المساعدات الإنسانية وذلك عبر التضييق على المؤسسات الخيرية ومنعها من تقديم المساعدة، فهناك الآلاف يموتون بسبب الجوع أو قسوة الأوضاع المناخية أو لغياب العناية الطبية فهناك الكثيرين يحتاجون للدخل الإنساني العاجل؛ وهو ما يستدعي ضرورة بذل مزيد من الجهد في هذا الصدد فالأزمة تتفاقم وشعب بأكمله يباد ويشرد.