وظيفة القضاء بين الناس أو النظر في مظالمهم من أعظم الرتب في إقامة الدين، ومن أخطر الولايات في سياسة الدنيا بالدين
وظيفة القضاء بين الناس أو النظر في مظالمهم من أعظم الرتب في إقامة الدين، ومن أخطر الولايات في سياسة الدنيا بالدين، فالقضاء توقيع عن رب العالمين، وصلاح للخلق على هدي سيد المرسلين، والقضاة ملاذ للمظلومين وأمن للخائفين، ولا سعادة وطمأنينة في الأرض إلا بالعدل في الحكم والقضاء، وبهذا الناموس العظيم قامت السموات والأرض. وخطة القضاء مبنية على تحقيق مقاصده، وتحري أهدافه العليا، وجُعِل للقاضي أمر تدبير الطرق الموصلة للعدل وتراتيب العمل بالحق، ولأجل أن المقاصد هي الحاكمة على سياسة القضاء كان العمل بها والرجوع إليها مظنّة التطوير، وحمايةً من الانحراف عند تزاحم العمل وتغاير الظروف وتكالب التحديات والمستجدات. ولعلي أسترشد بما نصت عليه الدلائل الشرعية في توضيح تلك المقاصد في إصلاح هذا المرفق وتطوير أدائه الميداني، من خلال الملامح التالية: العدل والعلم يقول ابن تيمية يرحمه الله: «المقصود في ولاية القضاء تحري العدل بحسب الإمكان وهو مقصود العلماء»(الفتاوى 18/169). وقال يرحمه الله: «ولما كان العدل لا بد أن يتقدمه علم؛ إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل؟ والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب عليه فصار عالماً عادلاً» (المرجع السابق). ووسائل تحقيق العدل وبلوغ العلم في القضاء المعاصر قد تغير عما كان عليه سلف الأمة، وذلك أن واقع الناس قديماً كان محفوظاً بالشرع، ووزاعهم القلبي مملوءاً بالإيمان، كما أن القضاة أغلبهم من العلماء المجتهدين أو المتأهلين، فوسائل تقرير العدل قد اجتمعت في ذات العالم، ولم يحتج إلا وسائل تحرٍ بالغة في الحجاج والدلائل. أما اليوم فإن واقع الحياة المعاصرة قد تشابك وتعقّد وانفتحت على المجتمعات صنوف الأنظمة والسلع والعادات والأفكار بسبب وسائل الاتصال والتواصل بين الشعوب والأفراد، كما أن القاضي لم يحصل على التأهيل الفقهي اللازم لتغطية ذاك الاحتياج المستمر والمتغير، لذلك فإن اعتبار الآليات المقترحة قد يسهم في تحقيق مقصد العلم والعدل: ضبط الأحكام القضائية المتداولة والمتقاربة والتباين فيها مفسدة؛ بمواد قانونية محددة، مثل أحوال الأسرة في الطلاق والنفقة والحضانة وغيرها، وبعض الدعاوى المالية في العقارات والتجارات الخارجية والتوثيقات العقدية. رسم منهجية واضحة في مجال الاجتهادات القضائية، كأن تحرر منهجية التكييف الفقهي للوقائع القضائية ويدرّب عليها القاضي ويُكسب الملَكَة اللازمة لها، وتوضّح منهجية العمل فيما يشدّد فيه كصيانة الأعراض والأموال، وما ييّسر فيه الحكم كقضايا الحدود والمخالفات الشخصية القائمة على الستر في أعراف الناس. الشفافية والوضوح في العمل القضائي وإبراز الأحكام النافعة للناس دون ما فيه ضرر أو فضيحة، وتعليم الناس حقوقهم وآليات المطالبة بها أو المدافعة عنها، سواء كانوا رجالاً أو نساء أو وافدين، بكل ما يسهّل الوصول للمحكمة من تقنيات أو أنظمة عملية يسيرة التطبيق. القوة والأمانة اشترط الفقهاء لمن يتولى القضاء شروطاً عديدة، كأن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً حراً عدلاً فقيهاً ورعاً (المغني 9/39). ولو اعتبرنا النظر المقاصدي في تلك الشروط لوجدنا أن ولاية القضاء لا تقوم إلا بالقوة والأمانة في شخص القاضي، كسائر الولايات العامة الأخرى، فالقوة تشمل العلم وسلامة الحواس، والأهلية اللازمة للتقصي والإدراك، والأمانة تشمل الديانة والصلاح الشخصي والعدالة الأخلاقية.. وشيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله سار على هذا المنهج المقاصدي، ورأى أن جامع صفات من يتولى هذه المناصب في الأمة أن يكون قوياً أميناً، وبذلك لم يشر إلى الشروط والصفات العديدة التي قررها الفقهاء يرحمهم الله في كتبهم لمن يتولى أمراً للمسلمين، ويؤكد ابن تيمية منهجه في قوله: «الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما يقول الله تعالى:{إنَّ خّيًرّ مّنٌ \سًتّأًجّرًتّ پًقّوٌيٍَ الأّمٌينٍ} (القصص:26)» (الفتاوى 28/253). ثم يقرر ابن تيمية يرحمه الله أن المقصد العام للقضاء والإمامة والوزارات المتنوعة الذي يجب ألا يغيب عن أحد: «وجميع الولايات الإسلامية، إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (الفتاوى 28/66). فالإطار العام للعمل القضائي هو تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه العام المنصوص منه والمعقول. وهذا العمل هو الذي ينتج إصلاحاً رائداً في المجتمعات البشرية. لذلك فإن القضاء يسير جنباً إلى جنب مع كل مؤسسات المجتمع الإصلاحية، فمهمة التغيير وقضايا الإصلاح جزء رئيس في العمل القضائي لا ينبغي حدّها بمجالات معينة إلا إذا كان تخصيصاً خادماً للمقصد العام من الإصلاح المجتمعي وتوزيعاًً للأدوار وتحقيقاً للتكامل مع مؤسسات الدولة الأخرى. يضاف إلى مهمة القضاء أنه يقوم بدور الرقابة أيضاً على تحقق الإصلاح الحقـيقي في الواقع العملي، وقد يحاسب ويعاقب من يخلّ بهذه المقاصد العليا من أصحاب الولايات أو غيرهم من أفراد المجتمع.>