دين مجدّد، إسلام جديد، تسميات رنانة في أعتاب أوروبا: «الإسلام الأوروبي، الإسلام الغربي، الإسلام الليبرالي، الإسلام الحديث»، أو قل: «إسلام على المقاس»! والمهم ليس الاسم ولكن العبرة في وصف المسمى؛ حذف النصوص الربانية المقدسة، لصنع أمة ضعيفة لا يجوز لها مقاومة الظلم، أو دفع الاستبداد، وتجديد فهم النصوص بما يتماشى مع الحرية المسعورة، إلا حرية المسلمين، والفكر الديمقراطي لحكم الأغلبية أياً كانت، إلا ديمقراطية المسلمين. يحاول الغرب – كما يقول «نيك دانفورث» – أن ينشر فكرة أن العالم الإسلامي يحتاج إلى إصلاح ديني من الداخل، أي إلى «مارتن لوثر مسلم» يأخذ بالإسلام إلى العصر الحديث، إنها حجةٌ ساقها الكثيرون من أمثال «توماس فرايدمان» لأكثر من عقدٍ من الزمان، وانضم في السنة الماضية فقط شخصان إلى القائمة القصيرة لفكرة «مارتن لوثر» الإسلامي المحتمل؛ الواعظ «فتح الله كولن» من تركيا، والجنرال المستبد «عبدالفتاح السيسي» من مصر(1).
وهما مع «محمد أركون»، و«حسن حنفي»، و«نصر حامد أبو زيد»، وغيرهم امتداد للفكرة الباطنية التي تظهر من جديد في الساحة الإسلامية، ولكن تحت أسماء جديدة؛ كالتنوير والتجديد والحداثة والتأويل، والإسلام الذي تدعو إليه هذه الباطنية الحداثية إسلام محرَّف ومبدَّل ومشوَّه.
لقد كانت الثورة الفرنسية وطريقة معالجتها لدور الكنيسة في الدولة النموذج الذي اعتمد عليه واحد من أشهر العلمانيين في العالم الإسلامي «مصطفى كمال أتاتورك» في تركيا، رأى «أتاتورك» أن المؤسسة الدينية الإسلامية هي العدو الذي يجب القضاء عليه، مثلما رأى الثوَّار في فرنسا الفاتيكان عدوةً لثورتهم، صادر «أتاتورك» ممتلكات المؤسسات الدينية، وحظر الفتاوى الدينية، كما فرض رؤية معادية للكاثوليكية في تدريس تاريخ أوروبا، استلهاماً من الأفكار العلمانية للثورة الفرنسية والبروتستانتية الأمريكية(2).
والواضح أن العديد من الحكومات الأوروبية مشغولة منذ فترة طويلة بإعداد إسلام جديد يتفق مع القيم والمعايير الغربية الليبرالية، هذا بالتزامن مع تشديد القبضة على المسلمين.. ففي النمسا، على سبيل المثال، أعلن وزير الاندماج مؤخراً أن حكومته ستقوم بتقديم قانون جديد يعمل على تعزيز الإجراءات وتشديدها ضد التطرف، وممثلو المسلمين في النمسا سيلجؤون إلى المحكمة الدستورية للطعن في بعض بنود «قانون الإسلام» إذا أقره البرلمان، ومن بين أبرز الانتقادات الموجهة لمشروع القانون اعتبار المسلمين مصدر خطر محتمل، وإظهارهم بهذه الصورة، ومن بين المواد المثيرة للجدل مواد تتعلق بحظر التمويل الخارجي للمنظمات الإسلامية، وإغلاق المساجد التي يقل روادها عن ثلاثمائة شخص في غضون ستة أشهر، فضلاً عن التدخل في تعيين الوعاظ.
أما في بلجيكا، فهناك العديد من الأصوات التي تنادي بما يسمى «إسلاماً أوروبياً».. وفي هولندا، فإن الحكومة قد شددت من إجراءاتها لمحاربة التطرف من خلال سنِّ إجراءات وقائية قمعية، ويتم الترويج لفكرة «إسلام هولندي».
وقد أسسوا من أجل ذلك مراكز ومنظمات إسلامية على صلة وثيقة بالحكومة، وأعدوا دراسات إسلامية لتخريج الأئمة، أو قل: تشكيل الأئمة بما يتوافق مع الفكر الغربي.. لقد استخدمت الحكومات الإعلام وما يبثه من سموم وتشويه للإسلام، وحملات التخويف من الإسلام؛ من أجل الضغط على الجالية المسلمة، وللقبول بصياغة إسلام مبني على أن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ليست صالحة لكل زمان ومكان، وهذا يتعارض مع قطعيات وثوابت الإسلام.
وجاءت حادثة الاعتداء على مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية؛ فكانت أعظم فرصة لصناع السياسة من أجل الدفع بفكرة صياغة الإسلام.. وفي بريطانيا، أثارت دعوة أطلقها العام الماضي وجددها بعد حاث باريس، حزب «استقلال المملكة المتحدة» الذي يوصف باليميني المتطرف، ردود أفعال غاضبة من المسلمين، وتنص الدعوة على إلزام أبناء الجاليات المسلمة في بريطانيا بالتوقيع على ميثاق بنبذ العنف، وعدم بناء مساجد جديدة، وحذف آيات من القرآن الكريم! واقترح عضو البرلمان الأوروبي عن الحزب «جيرارد باتن» أن ترتبط الجالية المسلمة في بريطانيا بعهد يلزمها التوقيع على ميثاق من أجل التعايش مع المجتمع البريطاني والغربي في سلام، ونشرت صحيفة «الجارديان» البريطانية النص الكامل لهذه المذكرة، وشدد الميثاق المقترح على «ألا يمارس أبناء الجالية المسلمة في البلاد العنف لأسباب دينية، والاعتراف بالمساواة على كافة المستويات، وإعادة النظر في بعض الآيات القرآنية والأحاديث التي تدعو إلى الجهاد والعنف»(3).
من جانبها، اعتبرت عضو البرلمان البريطاني عن حزب العمال «ياسمين قريشي» دعوة حزب الاستقلال لهذا الميثاق بـ«المطالب الوهمية»، وأن دعوة الحزب تهدف للفت الانتباه والحصول على شعبية من أجنحة اليمين الأكثر تطرفاً في المجتمع البريطاني.
أما الناطق الرسمي باسم «المبادرة الإسلامية في بريطانيا» «محمد كزبر» فقال: إنه من غير المقبول على الإطلاق من أي جهة كانت الطلب من الجالية المسلمة التوقيع على مثل هذا الميثاق؛ لأنه بمثابة تجريم للجالية المسلمة بأكملها وكأنها تمارس العنف ضد الآخرين، وأوضح «كزبر» أن هناك أقلية محدودة من الجالية المسلمة توصف بالتطرف حالها كحال جميع الجاليات، مشيراً إلى أن هذا قد يكون كرد فعل لما يحدث للمسلمين في بعض البلدان؛ كالعراق وأفغانستان وفلسطين، وأكد أن نسبة هؤلاء ضئيلة للغاية، وهم لا يمثلون الجالية بأي حال من الأحوال، وأضاف أن الجالية المسلمة الآن هي التي يُمارس ضدها العنف، وهي التي تقع ضحية الاعتداءات المتكررة عليها وعلى مساجدها ومدارسها، إضافة للاعتداءات التي تطال النساء المسلمات باستمرار من قبل اليمين المتطرف والذي يغذيه إعلام حاقد يحرض باستمرار فيما بات يعرف بـ«الإسلاموفوبيا».
«الإسلام الأوروبي» – كما يقول «د. أودو شتاينباخ»، مدير المعهد المشرقي الألماني بهامبورج – يتحقق إذا ما قبل المسلمون بإدماج مسائل الديمقراطية والمساواة بين المرأة والرجل، وكذلك الفصل بين الدين والدولة داخل معتقدهم، يدافع عن ذلك النهج «بسام طيبي»، الباحث في العلوم السياسية بجامعة جوتنجن، وهو أول من قال بهذا المصطلح عام 1992م، وتصوره يقتضي أن يكون على المسلمين أن يتبنوا القيم الأساسية للنظام الليبرالي الديمقراطي والمجتمعي لأوروبا برمتها؛ حتى يستطيعوا الخروج من عقليتهم وديانتهم المنتسبة إلى طور ما قبل الحداثة، ويتخذوا لهم موقعاً داخل الحداثة المسطرة من طرف أوروبا، هذا التصور سيتم تقبله على نطاق واسع كدعوة إلى الذوبان في المجتمعات الأوروبية، ويتم رفضه بصفته مساساً بالهوية الإسلامية.
وفي الطرف المقابل لموقف «طيبي» الذي يعتبر نوعاً من الخروج عن صف الأمة الإسلامية الممتدة على جميع أرجاء المعمورة، يقف «طارق رمضان»، مدرس الفلسفة الفرانكو-أنجلوفوني، المتخصص في العلوم الإسلامية، ويتبنى «رمضان» مفهوم «الإسلام الأوروبي» بحسب منظور مغاير، ويعتبر أن هذا الأخير لا ينبغي له أن يظل إسلام مهاجرين، بل أن يتجاوز ذلك كلياً إلى السعي لإيجاد إجابات جديدة عما تطرحه تحديات الحاضر، ويظل الأساس الذي يرتكز عليه مع ذلك هو مجمل القيم الإسلامية «ذات الصلوحية الكونية»، على المفاهيم الإسلامية التقليدية، في نظره، أن تتلاءم مع معطيات الواقع الأوروبي على ألا ترافق ذلك تنازلات جوهرية.
بهذه الطريقة يسعى «طارق رمضان» إلى تخليص مسلمي أوروبا من عقدة نقص مزدوجة؛ تجاه العالم الغربي من ناحية، وتجاه عالم إسلامي يدعي لنفسه تمثيل التعاليم الإسلامية النقية؛ وبالتالي فإن الأمر، وخلافاً لما هو لدى «طيبي»، لا يتعلق هنا بإدماج ومحو، بل بمشاركة، هذا المفهوم الذي يطوره «رمضان» يجد تقبلاً لدى المسلمين الشباب على وجه الخصوص، بينما الكثيرون من غير المسلمين يقفون في حيرة من أمرهم؛ هل ينبغي أن يروا في المسلم الأوروبي «رمضان» مصلحاً ليبرالياً، أم بالأحرى مبشراً أصولياً؟.
أرى أن الحل يكمن في أمرين؛ الأول: هو قيام العلماء الربانيين في أوروبا وغيرها بتوضيح الأمر عن ثوابت الإسلام، وحماية الكتاب والسُّنة من التحريف بأنواعه، والثاني: بتخلص المسلمين في أوروبا من بعض العيوب الملازمة لهم، ثم تقديم الصورة الحقيقية عن الإسلام والدعوة للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
الهوامش:
(1) Islam Will Not Have Its Own <Reformation>
Foreign Policy, 2 January 2015.
(2) Ukip MEP says British Muslims should sign charter rejecting violence
The Guardian, 4 February 2014.
(3) Euro-Islam: One Word, Two Concepts, Lots of Problems, 2005
http://en.qantara.de/content/udo-steinbach-euro-islam-one-word-two-concepts-lots-of-problems