بعد موجة الثورات العربية، تشهد البلاد العربية حالة من التباعد مع القيم والأخلاق تحت دعاوى التحديث، وهي ظواهر تترافق عادة مع التغيرات التي تشهدها المجتمعات، وكان من اللافت تكرار المطالبة بالثورة على النصوص الدينية، باعتبارها عقبة في طريق التقدم والاستقرار، كما أنها تشكل أرضية خصبة للإرهاب، وهي مقولات ومطالب تقتصر فقط على الإسلام دون غيره من المعتقدات، وهي ما يثير النقاش حول دلالات تبني بعض المسلمين والسياسيين لهذه التوجهات.
ومن الناحية الفكرية، يعد فلتان انتقاد الإسلام كنصوص ومرجعية، امتداداً لسياسات التغريب التي بدأت في القرن التاسع عشر، وهي سياسة تستهدف ترسيخ النمط الفوضوي في المجتمع، وظهرت سياسات مزدوجة، عملت من ناحية على تطوير الفكر الغربي، ومن ناحية أخرى اتجهت لتفكيك النظريات الإسلامية والثقافة العربية، وبغض النظر عن الجدال الفكري حول نتائج هذه السياسات، فإنها أدت إلى تشوه التنمية في العالم الإسلامي، وساهمت في تركز السلطة والاستبداد، وتكسير البنى الاجتماعية التقليدية، وتراجع التطور الصناعي.
لقد ركزت جهود المثقفين وتحالفهم مع الدولة على توطيد أسس الدولة العلمانية، على نحو يتعذر معه مزاحمة مشروع آخر، حتى وصلت الأمور إلى أنه من الضروري تشويه الدين باعتباره عقبة أمام التقدم، واستبداله بعلمانية عقدية، وقد نظَّر المبشرون بالعلمانية – وهم من المسيحيين – إلى التخلف العربي، تطورت في وقت لاحق، ليس فقط فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية (فصل الدين عن الدولة)، ولكن استبعاد الدين من المجتمع، وهو ما يظهر في السياسات الاجتماعية المتعلقة بـ«تكميش» (انكماش) الدور الاجتماعي للمسجد وتوحيد الخطابة، وهي نوع من السياسة التدخلية للسيطرة على المؤسسات الدينية والتحكم في توجهاتها.
ويعد الهدف الرئيس لهذه التوجهات؛ هو هز الأرضية التي تقوم عليها الثقافة والقيم الدينية والوطنية؛ فكانت فكرة الدولة القومية مقابلة لمفهوم الأمة بشكل أثار الدعوة إلى إعادة صياغة تاريخ الإسلام وتأويله تبعاً للمنهجية الغربية، وهي تشكل امتداداً لكتابات «محمد أركون»، و«جورج طرابيشي» وغيرهما، حيث كان محور مؤلفاتهم إعادة تشكيل النظم الاجتماعية عبر تغيير المقومات الدينية والثقافية، وهذه المسائل ظلت تشكل خلفية مواقف الدولة من الدين (الإسلام) وبصورة تخرجها عن الحياد تجاه الأيديولوجيات والأفكار.
وفي ظل قصور الدولة في بعض البلدان العربية عن تفسير موقفها تجاه الإسلام، يؤكد كثير من المشاهدات الآراء التي تذهب إلى أن الحكومات تسعى لتهميش الإسلام ذاته وتغيير بعض مقوماته الفكرية والعقيدية؛ تحت دعاوى مكافحة الإرهاب، وظهور توجهات ودعوات تسمح بالتوسع في الحريات لدرجة تتجاوز الفلتان الأخلاقي، والمشكلة أن هذه الحالات صارت تحظى بحماية قانونية، وتعمل تحت مظلة سياسية، وهي أمور تثير الجدل حول تحيُّزات الدولة، ليس فقط ضد الدين، بشكل عام، ولكن لصالح قيم تراها تعبيراً عن الحرية مهما كانت مخالفة للتقاليد والعادات.
وقد برزت وجهتا نظر في تفسير المطالبة بمراجعة النصوص الإسلامية أو التخلص منها، وكانت الوجهة الأولى تتعلق بأن المقصد العام يتجه نحو التراث الفقهي وليس المصادر الأصلية (القرآن الكريم، والسُّنة النبوية)، وهي توجهات تطالب بمراجعة الاجتهادات الفقهية التي عالجت ظواهر وأوضاعاً سابقة، وأصبحت لا تلائم الظروف الراهنة.
وذهبت الوجهة الثانية إلى أن المطالبة بالتخلص من التراث لا تميز بين النصوص الدينية واجتهادات العلماء عبر الزمن، ويستندون في ذلك إلى حالتين؛ أن الخطاب السياسي للسلطة لم يميز أو يفسر ما يقصده بالأفكار التي ساعدت في تفاقم النظرة السلبية للإسلام، وأن كثيراً من المثقفين العلمانيين والفوضويين اتجه للتعامل مع القرآن والحديث النبوي كتعامله مع القصائد الشعرية، ولذلك خلص لنتائج وآراء تطالب بحذف بعض الآيات والأحاديث باعتبارها لم تعد تناسب العصر.
سياسات ونماذج
وقد كان من المؤمَّل، أن تقود ثورات «الربيع العربي» حراكاً ثقافياً يملأ الفراغ الذي عانت منه البلاد لفترات طويلة، لكن العثرات التي واجهتها، وخصوصاً منذ انقلاب يوليو 2013م بمصر، أدت لحدوث تغيُّر في سياسات وطرق بناء وتكوين الثقافة الاجتماعية والدينية، وهناك الكثير من الحالات الأخرى التي توضح انحدار المسارات السياسية في العديد من البلدان نحو انحياز الدولة لموضة الحداثة دون معايير واضحة.
وبعد تردد، اتجهت مصر لرفع الرقابة عن الأعمال السينمائية، وعرض الأفلام دون مراجعة تراعي قيم المجتمع أو تحافظ على الحد الأدنى من وضع ضوابط للنشر الفني، وهذا ما يعبر عن وجود انحراف في النظر لدور السينما تجاه المجتمع؛ وهو يتشكل من ثلاثة اتجاهات.
إن إطلاق الخيال لطائفة من الأعمال «الفنية»، يأتي في سياق الكثير من الدعوات التي تميل بقوة للخروج على القيم والأخلاق، وهي محاولات تجاوز الدعوة لـ«علمنة» المجتمع وإبعاده عن التدين إلى مرحلة فرض موجة من الانحلال والصدام مع الدين، وهنا تفقد الدولة دورها كحارسة للقيم وحامية للتقاليد، وانتقلت لمربع حماية ثقافات لا تلائم البيئة الوطنية، وقد لقي هذا التوجه انتقادات من وجهة أنه يعزز الانفلات الاجتماعي.
تقييم اتجاهات «العلمنة»
ويمكن القول: إن ظهور مثل هذه السياسات يكشف عن مرامي وغايات تفكيك النصوص الدينية واستبعادها، سواء باعتبارها نصاً أصيلاً ومقدساً أو باعتبارها اجتهاداً علمياً، فالفكرة المركزية هنا تتمثل في الخروج على دائرة الضوابط الأخلاقية والنظم الاجتماعية؛ وبالتالي، تبدو مسألة تقييم هذه التوجهات غير ذات أهمية، وذلك يرجع إلى أن طرحها في هذا التوقيت يرجع لخلفيات ومواقف سياسية، وكرد فعل على الدور السياسي للحركات الإسلامية، خلال السنوات الماضية، ولم تأتِ في سياق جدل ثقافي وفكري يطرح مقولات جديدة ومختلفة في النظر والتعامل مع التغيرات الاجتماعية والسياسية.
فالمطالب التي تنتقد الخبرات والتراث الإسلامي تعاني من سطحية شديدة مقارنة بكتابات السابقين منهم؛ كـ«نصر أبو زيد»، و«فرج فودة»، حيث ارتكزت مقولاتهم على اجترار السوابق دون تقديم طرح مختلف يشكل إضافة لأفكارهم، وهذا ما يشير لتراجع المساهمات العلمية والمشروعات السياسية في التطوير الاجتماعي وطرح بدائل للتنمية.
وبغض النظر عن غموض مواقف بعض الدول من المطالبة بتصحيح النصوص الدينية، تشير الخبرات السابقة إلى وجود مشكلات منهجية في تناول العلمانيين للسياقات الإسلامية، حيث يُخضعون النصوص الإسلامية للمرجعية الفلسفية الغربية؛ ولهذا يصلون إلى نتائج مخالفة لطبيعة وخصائص النصوص ومقاصد الإسلام، فالتوجهات الاستبعادية في الفلسفات الغربية تفسر نظرتهم الدائمة إلى محتوى القرآن على أنه عقبة أمام التطور والتقدم، ويكون التصحيح بالتخلص منها.. فيما تسعى بعض الدول توظيف الجدل الفكري في إطار مكافحة الإرهاب؛ ولذلك ترى أهمية تجنيب النصوص التي تحض على القتال والجهاد؛ باعتبارها تشجيعاً على العنف، وهذه المواقف لا تأخذ في الاعتبار السياقات العلمية والمنهجية في تفسير النصوص وتكتفي بظواهرها.
إن استمرار هذه الظواهر يرتبط بالكثير من العوامل، لكنه من الممكن التركيز على عاملين مهمين؛ أن تلك الأفكار تستند في جزء منها إلى انخفاض اضطلاع المؤسسات الإسلامية بمهامها في الاجتهاد والتفسير والفتوى، ويؤدي هذا القصور إلى بروز كيانات علمانية وإسلامية تتصدى لهذه المهام دون دراية علمية.
كما أنه رغم اتساع تأثير الحركات الإسلامية، لم يتبلور مشروع متكامل يستطيع أن ينهض بعمليات التقدم والتحديث ومعالجة المشكلات التي تواجه المجتمع، وخلال السنوات الماضية، لم تظهر أفكار تعبر عن توجهات تجديدية يمكن الارتكاز عليها في تطوير السياسات الاجتماعية.