كنت أقرأ في “فقه العمران”، وأضع عناصر لخطبة جمعة حين وقع بصري على غير ميعاد على آيات من سورة “المؤمنون”؛ تتحدث عن تهيئة الأرض والسماوات وفتقهما لسكنى البشر، وإجراء المياه الضرورية لحياة الإنسان والنبات والحيوان.
وتتبع ذلك بإرساء الأرض بالجبال لكيلا تميد بالناس، ووضع الطرقات والسبل في البر والبحر؛ ليتواصل البشر بينهم، ويتعارفوا، ويتبادلوا المصالح.
أما السماء فسماها: (سَقْفاً مَّحْفُوظاً) (الأنبياء:32) لهذا المنزل الضخم المهيأ لسكنى الخليقة الخليفة.
أما النجوم، والشمس، والقمر فهي للمسكن المجهز: الإضاءة، والتدفئة، والصحة، والتوازن، والإنضاج.
والسكن هنا رحلة عابرة ليس لها قرار، ولذا عقّب بقوله: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {34}) (الأنبياء).
بعض الوعظ وبعض التربية لا تعرف من المشهد إلا الموت والدثور والبلى، وتبعاً لذلك تختصر الحياة بإما قاتل أو مقتول!
هذا المنزل الضخم مُعَدّ لآدم وذريته ليعمروه: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود:61)، فلا وجه بعد هذا لترديد النقل عن عيسى عليه السلام: “الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ، فَاعْبُرُوهَا وَلا تُعَمِّرُوهَا”.
خلافة آدم في الأرض تختلف عن فعل الملائكة الذين قالوا: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة:30).
خلافةٌ فيها الحرث، والبناء، والإعمار، والصنعة، والتناسل، والمعرفة.
استعمركم في الأرض: منحكم أعماراً يتذكر فيها من تذكر، وجعل للفرد أجلاً، وللأمة والدولة أجلاً لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، فأنتم أساس الحضارة والتشييد، والحضارة تقوم لتنفعكم وتعطيكم وتسهل عيشكم.. لا لتقتلكم وتفنيكم!
اسْتَعْمَرَكُمْ: غرس في فطرتكم الآدمية حب الأرض، وحب الحياة وزينتها، والرغبة في تخليد الذكر بالآثار الحسنة.
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها من بعدهم فبألسن البنيان
وشهد الخالق سبحانه على حب الإنسان للشهوات والمال والذرية والحرث والمتاع.
ورزقكم القدرة على التعلم وكسب المعرفة، ومقاساة التجربة، وتحصيل الخبرة.
اسْتَعْمَرَكُمْ: طلب منكم الإعمار والبناء على سبيل الوجوب؛ كبناء المساجد، والمرافق الضرورية، وما لا يتحقق للإنسان العيش والخصوصية والسّتر إلا به.
أو على سبيل الاستحباب فيما يسهل على الناس تحقيق مصالحهم الدنيوية أو الأخروية من الأبنية والطرقات والمطاهر وسواها.
أو على سبيل الإباحة؛ ككل بناء لا نص على تحريمه ولا إسراف فيه.
طلب منكم العمران المادي الذي يكفل: “حق الطريق” حسَّاً ومعنى، وحق الخصوصية ألا تنتهك، وحق الصحة: “بنى النبي – عليه السلام – خيمة بجوار المسجد لتمريض سعد بن عبادة”.
وحق الحرية: «يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ..» (رواه البخاري).
وحق الأمن: «مَنْ أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ, عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ, فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» (رواه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وابن ماجه).
وحق الجوار: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»! (رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن غريب).
وحق الجمال حتى يحاكي الإنسان في الأرض صورة الجمال الذي رآه آدم في الجنة وحكاه الوحي من الخضرة والماء والغرف وغيرها.
وحق الحلم بما هو أجمل وأكمل وأوسع وأعظم، والحلم موهبة زوّد الله بها آدم، ولذا خاطبه الشيطان وأغراه بالخلود والمُلك العريض!
وحق العدل بين الناس فالأرض وُضعت للأنام.
وتسلط المتجبرين المتكبرين على مواقعها الجميلة، وتركهم الضعفاء للعشوائيات والبلدان الفقيرة والنامية، مع نهب ثرواتها وتركها فريسة للمرض والجوع والجهل.. هو مما نعاه الله وأنكره عليهم: (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ {45}) (إبراهيم).
المؤمن متنقّل بين فضل الله في الضرب في الأرض، ورحمته في التعبد والخشوع وهو يقول في دعائه: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201}) (البقرة).
وهو مؤتمن على هذا الكوكب الغني البهي حفاظاً على سلامته وأمنه، وعلى جماله وزينته، وعلى نظافته وطيبه، ولم لا وهو قدسي صادر عن الرب الكريم: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً» (رواه البخاري ومسلم).