على أبواب الحرية، التي بكل يد مضرجة تدق، أبطال نذروا حياتهم للحق، من الذين لم يسكتوا، ولم يكونوا شياطين خرس، كانت حماة، وكان ميلاد ربيع العرب المبكر، ومفتاح ثورة كرامة، كانت مشعل نور، يضيء للقادمين دروب الرجاء، وركائز بناء في عالم متغير.
ما كتب لها البقاء، وتركت في صفحة الزمان حسرة خذلان، من خذلوا، من دول، ومؤسسات دولية، ومجتمع عالمي، وكثير من أبناء سورية، الذين ما قاموا بما يجب، وتحول ذلك الألم الباطن، إلى أنشودة تردد مع الزمان المتطاول، (عذراً حماة)، ولات ساعة مندم.
في وقت نسي بعض الناس فيه إنسانيتهم، تأتي ذكرى الألم والمأساة، ذكرى رائحة الدم، التي ما زالت تفوح في كل زاوية، وفي كل صفحة، وفي كل قلب حي، وفي كل ضمير يقظ، وفي كل مؤسسة نزيهة، وفي كل محفل يحترم نفسه، وفي كل كتاب يكتب تاريخ أمة في قرن، ذكرى الدمار والخراب والوحشية، ذكرى الطاغوت والإجرام وفقدان الرحمة، ذكرى الاستبداد والعدوان، وبنفس الوقت، تسطر الوقائع، ذكرى الجهات التي تكيل بعدة مكاييل، في السياسة والحقوق، وكأن الأمر نزهة، أو فيلماً سينمائياً، قضى هواة التفرج شهوة النظر عندهم، حتى نشفت شفاههم من بقيا بذور “قرشوها” في غفلة الزمان والمكان والسوق والحارة، بل والمسجد، وقاعة النظافة.
واسترخى الساديون على ألوان الكارثة، يجلسون على بساط الضياع، ويتكئون على فرش الشرود والتيه، وقد سرح خيالهم الفاسد، على أمواج أثير، من نسيج دم يتدفق، وصراخ يشق الأفق، ربما كان سببه قذيفة عمياء، أو قطع يد امرأة لتخليص الحلي الذي في يدها، أو ذبح ولد أمام أبيه أو أمه، أو العكس، والمظلوم يدعو على الظالمين المجرمين، وأنات أصوات من يتموا، تخترق عباب الوهم، لتصك آذاناً صماً، وتهز من فيه بقية من إيمان ووجدان، ورؤية تتفتق منها سحب مستقبل يشي بالخلاص، وآهات تزفر مرددة في أصداء من يسمع الصوت: قادمون، عائدون، وأنتم يا أعداء الإنسانية مهزومون، مندحرون، مهما طال الزمن، وانتشر المنون، وكأنها تتنبأ بثورة شعب شاملة، من خلال قراءة استشراف، نطقت بخطته الفطرة؛ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ {227}) (الشعراء).
نساء تستغيث، أطفال تصرخ، شيوخ تجأر، وقد رسمت لوحة من نشيد حزين، فيه بحة من فيه بقية حياة، ليبقى على درب الصالحين، ومنوال المجاهدين، ودرب المناضلين، ولسان الحال: نحن لا نيأس، لنا الأجر على كل حال، ومهما كان المآل، فهذا دربنا، عليه نمضي، وفي نهايته تكون البشرى، إن صبرنا وثبتنا، ويخسر الخاسرون، الذين شدو رحال الانكسار، في بيداء الجريمة؛ (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {87}) (يوسف).
إنها ذكرى مأساة حماة عام 1982م، بما حصل فيها من قتل وجرائم، وتدمير وتخريب، فاق التصور، وأدهش الغيارى، واليوم صار المشهد في كل سورية، فهل يجدي النحيب، أم لا بد من برنامج مناصرة لهذا الشعب الجريح؟! فأين من يشعر بالواجب؟ ويقوم بما عليه؟! ووصل الأمر إلى الموت جوعاً، مع ملايين النازحين والمشردين، ومئات الألوف من اليتامى والأرامل والمعتقلين، براميل، وصواريخ، وأسلحة محرمة دولياً، الكيماوي واحد منها، أما الشهداء من الكبار والصغار، والذكور والإناث، فحدث ولا حرج، والإحصاءات في هذا المجال مرعبة، فهل من قائل: لبيك سورية، ليثبت هذا الشعب على أرضه، حتى ينتصر على جلاديه وظالميه ومحتليه؛ “ومن كان في حاجة أخيه؛ كان الله في حاجته”.