مر العالم بتحولات فكرية في بنية نظامه وحركة فعله، تطورت من منظور مثالي إلى واقعي، ثم اعتماد متبادل حتى العودة إلى الواقعية مرة أخرى بإضافة جديدة، هذا التحول الفكري صاحبه أدوات وأساليب عمل قام عليها النظام الدولي في بنيته، جمعت بين الاقتصاد والسياسة والعسكرة، وهي أدوات وعناوين لم يغب عنها المفهوم الأيديولوجي والديني خصوصاً.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود الولايات المتحدة كمتحكم في النظام العالمي دون منازع، أصبح الطريق مفتوحاً نحو ما عرف بنهاية التاريخ الذي أرَّخ له «فوكوياما»، وصراع الحضارات لـ «هنتجتون»، وهي مفاهيم ودلالات استخدمت لتؤسس للحقبة الجديدة، وربما كان احتلال العالم الإسلامي أحد أوجهها الأكثر وضوحاً؛ حيث بدا طابعه دينياً أكثر منه سياسياً أو اقتصادياً.
فقد صعدت المسيحية بسرعة البرق خلال الحقبة الماضية؛ حيث أصبحت الكنيسة واجهة لجميع الحملات الغربية الاحتلالية للعالم الإسلامي، ولم تتحرك أساطيل أمريكا لاحتلال العراق وأفغانستان إلا بمباركة كنسية، خاصة في ظل صعود اليمين المحافظ بمؤسساته الكنسية الضخمة.
الأرثوذكس.. والبحث عن الإمبراطورية
امتدت روح السيطرة على العالم الإسلامي إلى طوائف المسيحية بمختلف تكويناتها، وتحركت في الشرق كما الغرب؛ فمن المعروف أن مسيحيي الغرب البروتستانتيين على خلاف مع مسيحيي الشرق الأرثوذكس في أمور أصولية، لكنهم متفقون على أن المسلمين هم أعداؤهم؛ ففي محاضرة ألقاها بابا الفاتيكان في 27 فبراير 2006م، أثناء لقائه بمجموعة من الكهنة الأرثوذكس باليونان صرح بقوله: «علينا أن نواجه التحديات التي تهدد الإيمان، وننشر السماد الروحاني الذي غذى لقرون أوروبا، بإعادة التأكيد على القيم المسيحية، ودعم السلام والتلاقي حتى في الظروف الأكثر صعوبة، وتعميق العناصر المستمدة من الإيمان والحياة الكنسية التي من شأنها أن تؤدي إلى غاية الاتحاد الكامل في الحقيقة والمحبة».
والأرثوذكس هم طائفة مسيحية انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية الغربية عام 1054م، وتوزعت بين دول الشرق، وانقسمت على نفسها بعض الشيء، لكنها خضعت تحت سلطة بابا روما، وهي مختلفة فيما بينها على طبيعة المسيح، ومتحدة على الإيمان بأن الروح القدس منبثقة عن الأب وحده، وكلمة «أرثوذكسية» تعني «مستقيمة المعتقد مقابل الكنائس الأخرى».
والكنيسة الروسية الأرثوذكسية هي أكبر كنيسة أرثوذكسية شرقية مستقلة، يتبعها 125 مليون مسيحي، وقد عانت هذه الكنيسة تحت الحكم السوفييتي نتيجة الفكر الإلحادي للاتحاد، فهضمت حقوقها القانونية وتعرضت لعملية قمع واضطهاد وخسرت الكثير من أتباعها، ويُسجل التاريخ (عام 1925م) حادثة سجن ومقتل بطريرك.
أرثوذكسية روسيا واحتلال سورية
تراجعت القوى الدولية أمام جموح الولايات المتحدة، ولم يعد لروسيا القيصرية تواجد ولا لبريطانيا وغيرها من الإمبراطوريات الكبرى، إلا أن المشهد الحالي أصبح يشهد ظهور بعض هذه القوى، وهو نتيجة لسعي مستمر منذ زمن في تقاسم الكعكة التي على ما يبدو لا تستطيع الولايات المتحدة تحمل تكلفتها بمفردها.
ووجد الفتى الطائش «بوتين» ضالته في حلم السيطرة والنفوذ، معتمداً على الكنيسة التي نهضت من كبوتها على يديه؛ حيث يعتبرها شريكاً ظلمته الشيوعية، وجاء «بوتين» لكي يعيد له حقه؛ فقد نقل عنه قوله: «في أصعب الأوقات التي مر بها تاريخنا، عاد شعبنا إلى جذوره، إلى الديانة المسيحية وإلى القيم الروحية»، مؤكداً أن الكنيسة ملأت الفراغ الأخلاقي بسبب غياب القيم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وكانت ولادة جديدة طبيعية للشعب الروسي.
بل وقال عنه بطريرك موسكو وعموم روسيا القس «كيريل» في إحدى حملات «بوتين» الانتخابية: إن «بوتين» هو المعجزة التي انتشلت روسيا من وحدة الضياع التي دخلت فيها بمجرد انحلال وتفكك الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، إنه إصلاحي أرسلته العناية الإلهية لينقذ البلاد!
وقد نقل الصحفي أميل أمين عن «نيويورك تايمز» قولها: إن «بوتين» سعى من أجل تحقيق فوز ساحق إلى حشد دعم الرموز الدينية في بلاده أثناء انتخابات عام 2012م، متعهداً بتخصيص عشرات ملايين الدولارات لإعادة بناء أماكن للعبادة وتمويل المدارس الدينية، غير أن رئيس الدائرة البطريركية للعلاقات الخارجية في الكنيسة المطران «هيلاريون» طلب من الرئيس «بوتين» عوضاً عن المال أن يقطع له وعداً بحماية الأقليات الدينية في الشرق الأوسط الذي يمر بما يسمى زمن «الربيع العربي»، على حد تعبيره.
ولقد كان المشهد في سورية استدلالاً على عودة روسيا من باب الأيديولوجيا والإبحار نحو السيطرة على العالم؛ فمع أول إعلان عن الضربات الجوية وتوجيه حشود عسكرية للدخول لسورية، خرجت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لتعلن أن قتال الإرهاب معركة مقدسة اليوم، وربما تكون بلادنا هي القوة الأنشط في العالم التي تقاتله.
كل ذلك دفع رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين د. يوسف القرضاوي التساؤل قائلاً: إذا دافعنا عن أوطاننا وبيوتنا وأعراضنا باسم الإسلام الذي نؤمن به نُتهم بالإرهاب، بينما روسيا تقصف سورية والمعارضة باسم الحرب المقدسة! مضيفاً: من الذي بارك لروسيا قصف سورية؟ هل باركها الله أم المسيح أم نصوص الإنجيل؟ هذه حرب ملعونة مذمومة باسم الأديان والقوانين والأخلاق والمواثيق.
ومنذ التدخل الروسي في سورية وحصد الأرواح لا يتوقف، وقوافل الشهداء من المدنين وخاصة الأطفال مستمرة دون أن يعلن آباء الكنيسة في روسيا رفضهم لهذه البشاعة في القتل؛ فقد قالت «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» في نوفمبر الماضي: إنها وثَّقت 40 مجزرة في سورية خلال أكتوبر العام الماضي، منها 10 مجازر على يد القوات الروسية، تسببت في استشهاد 500 شخص منهم 160 طفلاً.
حرب باسم الله!
مباركة الكنيسة الأرثوذكسية للحملة الروسية الدموية على الشعب السوري لم تأتِ من فراغ؛ فالدلالات الأيديولوجية في الصراع لم تخف عن الخطاب المعلن في كل مناسبة وحديث من قبل قيادات كنسية روسية مخلوطة بحلم الإمبراطورية والسيطرة على العالم الإسلامي تحت شعار «حرب مقدسة باسم الإله».
وقد انتقد مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند بلبنان الأب جورج مسّوح موقف الكنيسة الروسية من الحرب في سورية، معتبراً أن مسيحيي الشرق لا يؤمنون بالحرب المقدسة، مضيفاً أن العودة إلى القرون الوسطى أمر مرفوض، لا نريد أيضاً الإمبراطورية البيزنطية والبابوية اللتين شنتا حروباً باسم الإله.
وفكرة قدسية الحرب صبغة يحرص عليها «بوتين»؛ ففي ديسمبر 2014م وأمام اجتماع الجمعية الفيدرالية قبيل احتلال القرم قال «بوتين»: إن انضمام شبه جزيرة القرم دلالة مقدسة بالنسبة لروسيا؛ لأن الأمير «فلاديمير» – الذي أسس للكنيسة الأرثوذكسية – نال العماد هناك بالذات عام 988م، في مدينة هيرسوني.>
الكنيسة الأرثوذكسية.. ومذابح البلقان
برغم ما تحظى به الكنيسة الأرثوذكسية من خصوصية الجغرافيا، كون أتباعها بالأساس واقعين في الجانب الشرقي من العالم الذي يحظى بتواجد إسلامي، فإن الكنيسة وأتباعها لهم مواقف تاريخية مملوءة بالدم، ولعل ما حدث لمسلمي البلقان ليس ببعيد، فقد شهد المسلمون هناك مذابح ما زال التاريخ يعتبرها من كوارث العصر الإنسانية، وهي المذابح التي كانت بمباركة الكنيسة الأرثوذكسية؛ فقد سجل المؤرخون الخطبة التي ألقاها «سلوبودان ميلوسوفيتش»، أحد الزعماء الصرب، على خشبة المسرح التي زُيِّنت برموز الكنيسة الأرثوذكسية الصربية وذاك في الذكرى الـ600 لهزيمة كوسوفو، لتبدأ شرارة معركة دامية راح ضحيتها مئات الآلاف من المسلمين في البوسنة وألبانيا والجبل الأسود.
ومن الدلالات الحية على فظاعة ما قامت به الكنيسة الأرثوذكسية في صربيا «مذبحة سربرنتشا»، تلك القرية التي اختفي 17 ألف مسلم منها بين شهيد ومسجون على يد الصرب، وهي واحدة من مجازر عدة قام بها نصارى الصرب من أجل السعي لإنشاء مشروع دولة صربيا الكبرى كأكبر دولة أرثوذكسية أوروبية بعد روسيا.