لقد سبق الإسلام كل الدساتير الأرضية في العناية باليتيم وحفظ حقوقه؛ فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يخص اليتامى بحقوق ضمن الحقوق العالمية للإنسان؛ فقد نص الميثاق العالمي على رعاية الطفل فقط، بينما تميز الإسلام بإعطاء عناية خاصة لليتامى وحفظ حقوقهم، وأمر بالإحسان إليهم بكافة أنواع الإحسان؛ بل ورتب على ذلك الأجر والثواب.
وتتمثل عناية الإسلام باليتيم في التوصيات النبوية التي توليه عناية فائقة واهتماماً به وحرصاً على الإحسان إليه، وإعالته حتى يستغني، والعمل على إدخال السرور على قلبه، مع مراعاة مشاعره وعواطفه.
وقد رتب النبي – صلى الله عليه وسلم – على الإحسان إلى اليتيم وعداً بالأجر العظيم؛ ذلك أن طبيعة الإنسان ربما تستنكف أن تشغل نفسها بيتيم، وربما تتركه اتكالاً منها على أن يأخذه غيره من باقي المسلمين؛ فإذا علم الشخص أن في إعالته لهذا اليتيم أجراً وثواباً ومقابلاً مكافئاً؛ يكون ذلك أدعى للحرص على المسارعة إلى هذا الخير.
ومن هذه التوجيهات النبوية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه”؛ فأي اهتمام بعد هذا الكرم النبوي الذي يجعل خيرية بيوت المسلمين مرتبطة بالإحسان إلى اليتيم.
بل إن هذا الكرم النبوي يتعدى هذه الخيرية الدنيوية إلى ضمان الجنة يوم القيامة؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من عال يتيماً حتى يستغني عنه أوجب الله له بذلك الجنة”؛ فمن يرفض هذا الوعد الإلهي الذي أوجب الله فيه الجنة لكافل اليتيم؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم يحدد مكان كافل اليتيم في الجنة فيقول: “إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح، لا يدخلها إلا من فرح يتامى المؤمنين”، فالجزاء من جنس العمل؛ ودار الفرح في الجنة لمن فرح اليتيم في دار الدنيا، والملاحظ في هذا الحديث أنه رتب هذا الأجر على مجرد تفريح اليتيم، الذي ربما يكون بهدية أو أعطية أو رحلة أو حتى كلمة طيبة أو نظرة حانية.
ويساوي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في موضع آخر بين كفالة اليتامى والأمور العظام في الإسلام؛ مثل القيام والصيام والجهاد في سبيل الله؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ومن عال ثلاثة أيتام كان كمن قام ليله، وصام نهاره، وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله”.
وتتجلى العناية بكفالة اليتيم أيضاً في الأمم السابقة قبل الرسالة المحمدية؛ فقد سأل موسى نبي الله ربه: “ما جزاء من كفل يتيماً؟”، فأوحى إليه الله عز وجل: “أظله في ظل عرشي يوم القيامة”.
وتتضح هذه العناية في أبهى صورها في هذا التنافس الشريف الذي أنزل الله فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، في التنافس على كفالة مريم ابنة عمران؛ هذا التنافس الذي يدل على عظم وفضل ما يتنافسون عليه؛ حيث يقول تعالى: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {44}) (آل عمران).
مظاهر كفالة اليتيم
الطفل اليتيم غالباً ما يعاني من حساسية مفرطة في تفسير تصرفات الآخرين تجاهه؛ نظراً لاضطرابات الطبع التي تتولد لديه جراء ما يعانيه، وهذه التصرفات تتجه للعالم الخارجي الذي كثيراً ما يكون سلبياً في تعامله مع نفسية اليتيم؛ فيكون الزجر والعنف والقسوة؛ لذا كانت عناية الإسلام بنفسية اليتيم، والتلطف في معاملته كبيرة؛ فقد قال تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ {9}) (الضحى).
وكافل اليتيم يجب أن يدرك أن عمله يختلف عن الصدقة والزكاة؛ حيث إن كفالة اليتيم تحتاج منه لمتابعة ومراقبة ونصح واهتمام ولو عن بُعد، وهذا يعود بنتائج إيجابية على نفسية اليتيم، ويساعده في أن يصبح إنساناً سوياً صالحاً، يكمل مشوار أبيه إن كان صالحاً.
ومن المفاهيم الخاطئة أن كفالة اليتيم تقتصر على الاهتمام المادي به فقط، ولكن الإسلام يرتقي بهذه المهمة من درجات الماديات والحسيات إلى درجات المعنويات والمعاملة السامية؛ فيأمر بإصلاحهم، ويحض على مخالطتهم وإشراكهم في المجتمع؛ ذلك أن العزلة لها آثارها الخطيرة على نفسية الطفل، خاصة إذا كان يعاني من هذه الحساسية التي يعاني منها من فقد أحب الناس إليه؛ حيث يقول تعالى في معرض حديثه عن منظومة القيم الأسرية والاجتماعية: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة:220)، وليعلم كافل اليتيم أن إكرام اليتيم يكون بقدر مخالطته للمجتمع واندماجه فيه.
وليعلم الكثير أن هناك أيتاماً أغنياء، لكنهم يحتاجون لكفالة وإكرام معنوي، وهذه الكفالة والإكرام يحتاجهما اليتيم الغني كما يحتاجهما اليتيم الفقير، والإكرام المعنوي غالباً ما يكون أفضل من الإكرام المادي: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {263}) (البقرة).
ومن مظاهر إكرام اليتيم أن يحرص على تأديبه ورعايته ومراقبته ومحاسبته، كما يفعل مع ولده؛ فقد روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: “أدِّب اليتيم مما تؤدب به ولدك، واضربه مما تضرب به ولدك”، وهذا نبي الله زكريا يتابع السيدة مريم ويراقبها ويسألها عن الرزق الذي وجده عندها (يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) (آل عمران:37).
فلا بد من تعليم اليتيم وتثقيفه، ومعاملته المعاملة العادية التي نعامل بها أولادنا حتى لا نجرحه، ولنحذر أن نعامله معاملة خاصة تختلف عن الآخرين.
ويجب متابعة أحوال اليتيم بما يطيق الكافل؛ بحيث يكفي الشعور والإحساس بهذا اليتيم، ولو أن يمسح على رأسه، وهذا من محاسن الإسلام؛ حيث يستطيع الكافل الفقير والمجتمع كله أن يكفل اليتم.
أيتام لكن عظماء
كثيراً ما تأتي المنحة من رحم المحنة؛ فربما يكون فقد الوالدين أو أحدهما سبباً دافعاً للتميز والتفوق؛ فما أكثر الصور المشرقة لأيتام تميزوا وبرزوا وكانت لهم بصماتهم الواضحة على المجتمع من حولهم. ويأتي على رأس هؤلاء الأيتام العظام:
– سيد الخلق وإمام الحق رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – الذي توفي أبوه قبل ولادته، وماتت أمه وهو في طفولته، وتولى رعايته جده عبدالمطلب، ثم عمه أبو طالب؛ حتى شب وجاءه الوحي من السماء حاملاً البشرى والنور والهداية للعالمين، وقد خاطبه ربه فقال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى {6}) (الضحى).
– السيدة مريم العذراء، التي أشرنا إلى قصتها سابقا، والتي كفلها نبي الله زكريا، والتي بشرتها الملائكة: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ {42}) (آل عمران)، وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ”كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون..” (رواه البخاري).
– الحافظ ابن حجر يرحمه الله؛ فقد ربته أخته سِت الرّكب بنت علي بن محمد بن محمد بن حجر، قال عن نفسه: “وُلِدتْ في رجب سنة سبعين في طريق الحج، وكانت – أي أخته – قارئة كاتبة أعجوبة في الذكاء، وهي أمي بعد أمي”.
– إمام أهل السُّنة والجماعة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وأصله من البصرة، ولد عام 164هـ في بغداد، وتوفي والده قبل مولده؛ فنشأ يتيماً، وتولَّت رعايته أمه، وحرصت على تربيته كأحسن ما تكون التربية، وعلى تعليمه فروع الثقافة التي كانت سائدة؛ فحفظ القرآن الكريم، وانكبّ على طلب الحديث في نهم وحب، وبزَّ أقرانه في الفقه حتى صار أحد أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة المعتبرة.