إن النمو السكاني هو الوحيد الذي ينافس الاستهلاك المرتفع كسبب للتدهور البيئي، وعلى الأقل فإن كثيراً من حكومات العالم يعتبرون النمو السكاني الآن مشكلة، وتبايناً مع ذلك، فإن الاستهلاك يعتبر خيراً على النطاق العالمي، والواقع أن زيادته تعتبر الهدف الرئيس للسياسة الاقتصادية الوطنية، ومستويات الاستهلاك تظهر النمو الكامل لشكل جديد للمجتمع البشري، المجتمع الاستهلاكي.
لقد نشأ هذا الأسلوب الجديد للحياة في مجتمعات الغرب، والكلمات التي تمثل روح هذا الأسلوب على أحسن وجه هي التي قالها فيكتور ليبو: إن اقتصادنا الإنتاجي يتطلب بدرجة هائلة أن نجعل الاستهلاك هو أسلوبنا في الحياة، ويخوّل شراء السلع واستخدامها إلى طقوس نداوم على أدائها، ونلتمس رضاءنا الروحي، ورضا غرورنا في الاستهلاك، إننا في حاجة إلى استهلاك الأشياء وحرقها وبليها وتبديلها بمعدل دائم الزيادة· وللأسف، فقد تبارى في محاكاة أسلوب الحياة الذي ابتدع في الغرب أولئك الذين يطيقونه في مختلف أنحاء العالم، ولكن كثيرين لا يستطيعون ذلك، والصدوع الاقتصادية التي تمزّق العالم تستعصي على الفهم، فالعالم فيه 300 بليونيراً وأكثر من ثلاثة ملايين مليونيراً، وفيه أيضاً 500 مليون شخص بلا مأوى يسكنون الأرصفة ومقالب القمامة وتحت الجسور.
كذلك، فإن قيمة مبيعات السلع الفاخرة على النطاق العالمي أرقى الأزياء وأفخر السيارات وغيرها من علامات الثراء الأخرى، تفوق إجمالي النواتج الوطنية لثلثي دول العالم، يقول آلن درتنج في كتاب “ما وراء الأرقام”: اليوم يوجد في العالم ثلاث طبقات “أيكولوجية” رئيسة؛ هي طبقات المستهلكين وطبقات ذوي الدخل المتوسط والفقراء، وكل طبقة لها خصائصها وسماتها التي تميِّزها اقتصاداً.
إن فقراء العالم البالغ عددهم 1.6 مليار شخص تقريباً، يحصلون على دخل مقداره 400 دولار سنوياً لكل فرد من أفراد الأسرة، ومن ثمَّ فإن هذه المجموعة البشرية التي تضم خُمس سكان العالم وأفقرهم تحصل على 2% لا غير من دخل العالم.
أما طبقة الدخل المتوسط في العالم، التي تضم 3.3 مليار شخص، فإن دخلها يتراوح بين 700 – 750 دولاراً سنوياً لكل فرد من أفراد الأسرة، وتشمل طبقة المستهلكين التي تضم 1.1 مليار شخص من أعضاء المجتمع الاستهلاكي العالم، جميع العائلات التي يزيد دخل كل فرد من أفراد أسرها على 750 دولاراً سنوياً.
إن الثغرة الواسعة التي تفصل بين استهلاك السعداء والبؤساء من الموارد تظهر واضحة في تأثيراتهم في العالم البيئي، فاتجاهات الاستهلاك المندفعة صعوداً تبعاً لزيادة عدد المجتمع الاستهلاكي هي من منظور آخر مؤشرات عارمة للضرر البيئي.
فاستغلال المجتمع الاستهلاكي للموارد يهدد باستنزاف الغابات والتراب والماء والهواء أو تسميمها أو تشويهها تشويهاً ثابتاً لا يمكن تغييره، وأعضاء المجتمع الاستهلاكي مسؤولون عن جزء غير متناسب من جميع التحديات البيئية التي تواجه الإنسانية.
حيث إن استخدام طبقة المستهلكين للوقود الحفري بأنواعه، على سبيل المثال، يتسبب فيما يقدر بثلثي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من هذا المصدر.
إن الاستهلاك المرتفع يحدث تأثيرات ضخمة في حياتنا، ورياش أسلوب حياتنا الاستهلاكي، تلك الأشياء كالسيارات والسلع ومواد التغليف والتعبئة التي يتم التخلص منها بعد استعمالها مرة واحدة، والقوت الغني بالدسم وتكييف الهواء، لا يمكن التنعّم بها إلا بخسارة بيئية فادحة، كما أن طريقتنا في الحياة تتوقف على مدخلات ضخمة ومستمرة من السلع نفسها التي يلحق إنتاجها أبلغ الأضرار بالأرض؛ وهي الطاقة والمعادن والورق والكيماويات، وهذه الصناعات الأربع تحتل المراكز الأولى في القوائم الخمس التي ترتب الصناعات.
وهكذا، فإن أعضاء المجتمع الاستهلاكي مسؤولون عن المحن التي تتعرض لها الأرض بدءاً من الدفء العالمي وانتهاء إلى انقراض الأنواع، ومع هذا، فإن استهلاكنا نادراً ما يحظى بانتباه أولئك الذين يساورهم القلق بشأن مصير الأرض، حيث إنهم يركزون على الأسباب الأخرى المسهمة في التدهور البيئي، والواقع، فالاستهلاك هو المتغير الذي أسقط من المعادلة البيئية العالمية.
إذ إن العبء الكلي الذي يثقل به نظام اقتصادي النظم الأيكولوجية التي يقوم عليها هو دالة لثلاثة متغيرات، هي: حجم السكان، ومتوسط الاستهلاك، ومجموعة التقنيات.
وما يحدث بصفة عامة، هو أن المهتمين بشؤون البيئة يبحثون في تنظيم التقنيات وتغييرها، ومؤيدي تنظيم الأسرة يركزون على إبطاء النمو السكاني، بَيْدَ أنه لا يمكن أن يكفي التغيير التقني وتثبيت عدد السكان وحدهما لإنقاذ الكوكب من دون تكميلهما.
وللأسف، فإن الاستهلاك المرتفع نعمة متناقضة الأوجه فيما يتعلق بالإنسان أيضاً، فالناس الذين يعيشون في التسعينيات هم في المتوسط أغنى من أسلافهم في بداية القرن أربع مرات ونصف المرة، ولكنهم ليسوا أسعد منهم أربع مرات ونصف المرة، وما هو أسوأ أن هناك مصدرين رئيسين للرضا الإنساني، وهما العلاقات الاجتماعية، ووقت الفراغ، ويبدو أنهما قد ضويا أو توقف تقدمهما في زحمة الاندفاع طلباً للثراء.
وعلى ذلك، فلدى كثيرين منَّا في المجتمع الاستهلاكي إحساس بأن عالم الوفرة الذي نعيش فيه أجوف بطريقة أو بأخرى، وبأننا قد خدعنا بالثقافة المحبذة لزيادة الاستهلاك·
فقد كنَّا نحاول بلا جدوى تلبية الاحتياجات الاجتماعية والنفسية والروحية أساساً بأشياء مادية فقط منقادين خلف خيالات وتصورات متوهَّمة.
وفي المقابل، فإن نقيض فرط الاستهلاك، وهو العوز بالطبع، ليس هو الحل للمشكلات البيئية أو الإنسانية، فهو أسوأ بلا حدود بالنسبة للكثير من الناس وسيء للعالم البيئي.
فإذا كان الدمار البيئي يحل عندما يكون ما لدى الناس أقل أو أكثر مما ينبغي، فليس أمامنا إلا أن نتساءل: ما مقدار ما يكفي؟ وما مستوى الاستهلاك الذي تطيقه الأرض؟ ومتى تتوقف زيادة الثراء عن زيادة رضا الإنسان بقدر محسوس؟ وهل يمكن لجميع السكان في العالم أن يعيشوا عيشة مريحة من دون أن يتسببوا في تدهور ازدهار الكوكب البيئي؟ وهل يوجد مستوى معيشي أعلى من الفقر والكفاف ولكن دون أسلوب الحياة الاستهلاكي؟ وهل يمكن أن يكون لدى جميع الناس في العالم تدفئة مركزية وثلاجات ومجففات ملابس، وسيارات وأجهزة تكييف الهواء وأحواض سباحة مياهها دافئة ومنزل لكل منهم؟!
الحقيقة، لا يمكن الإجابة بشكل قاطع عن كثير من هذه الأسئلة.
ولكن، التساؤل أساسي، على الرغم من ذلك، بالنسبة لأعضاء المجتمع الاستهلاكي، فإذا لم ندرك أن المزيد ليس دائماً أفضل، فإن جهودنا لإحباط التدهور البيئي ستطيح بمعظم شهواتنا، وإذا لم نتساءل، فالمحتمل أننا سنكون عاجزين عن إدراك القوى المحيطة بنا، والتي تثير هذه الشهوات مثل الإعلان المستمر بلا هوادة، والمراكز التجارية المتكاثرة والضغوط الاجتماعية لمجاراة الخلاَّن والجيران·
وللأسف، فقد لا ننتهز الفرص لتحسين مستويات حياتنا بخفض الاستهلاك المرتفع، وخفض ساعات العمل، وقضاء بعض الوقت مع الأسرة والأصدقاء، ومع هذا، فليست هناك مغالاة في أن التحوُّل من المجتمع الاستهلاكي إلى مجتمع متواصل صعب، فنحن المستهلكين ننعم بأسلوب حياة يطمح إليه كل إنسان تقريباً، ولِمَ لا؟! فمَنْ ذا الذي لا يسارع إلى اقتناء سيارة ومنزل كبير على مساحة واسعة من الأرض يتحكم في درجة الحرارة داخله طوال أيام السنة؟
إن زخم قرون التاريخ الاقتصادي وشهوات الخمسة بلايين ونصف البليون شخص المادية تنحاز إلى جانب زيادة الاستهلاك.
وعلى ذلك، فربما نكون أمام مشكلة لا تسمح بأي حال بعلاج مقبول، فالتوسع في أسلوب الحياة الاستهلاكي ليشمل الجميع من شأنه أن يعجِّل خراب المحيط الحيوي.
فالبيئة العالمية لا تستطيع إعالة 1.1 مليار شخص يعيشون على نمط حياة المستهلكين الغربيين، ولا بالتأكيد 5.5 مليار شخص أو سكان العالم في المستقبل الذين لن يقل عددهم عن 8 مليارات شخص·
ومن ناحية أخرى، فإن خفض مستويات استهلاك المجتمع الاستهلاكي وكبح الطموح المادي في المجتمعات الأخرى اقتراح خيالي غير عملي، ولو أنه مقبول أخلاقياً، ومع هذا فقد يكون هو الخيار الوحيد.
فإذا أريد لأحفادنا أن يرثوا كوكباً عامراً بالوفرة والجمال، فيتحتم علينا نحن المنتمين إلى طبقة المستهلكين أن نأكل ونتنقل ونستخدم الطاقة والموارد بأسلوب أقرب شبهاً للأسلوب المتَّبع في الدرجة الوسطى من السلم الاقتصادي العالمي.
ختاماً أقول: إن غنى المرء يتناسب مع الأشياء التي يطيق أن يدعها وشأنها!