سيل الغضب الأوروبي المنصب حاليًا على ما يسمونه بالتطرف الإسلامي أعاد إشعال النقد المعتاد للإسلام في أوروبا والاتهامات المعتادة الموجهة له بأنه دين غير متسامح، وأن أتباعه متخلفون فكريًّا وغير قادرين أو ربما غير راغبين في التكيف والتعايش مع القيم الغربية وقبولها.
للأسف، لم يتغير هذا النقد الغربي طيلة 26 عامًا ربما كانت بدايتها قضية سلمان رشدي وكتابه “آيات شيطانية” الذي تم اتهامه فيه بتشويه صورة النبي محمد، عندها وقفت الحكومات الغربية والملايين من أنصار الكاتب مؤكدين الحق المطلق للكاتب في تشويه صورة النبي محمد كنوع من حرية التعبير، غير مبالين بمشاعر 1.6 مليار مسلم في هذا العالم.
مفهوم الحرية التعبيرية
والآن بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود، الخلافات بين المسلمين وغير المسلمين حول مفهوم حرية التعبير يبدو أنها وصلت لطريق مسدودة لا يمكن حلها، ولكن يجدر بنا طرح هذا السؤال الآن “هل التزام الغرب بحرية التعبير هو أمر مطلق بغض النظر أكان الموضوع مضادًا للإسلام أم لا؟ أم أنها حملة غربية مضادة للإسلام مرتدية حُلة الحق في التعبير؟”.
في نظرة سريعة على القانون الأوروبي نجد أنه يصب في مصلحة النصف الأخير من سؤالنا السابق، حيث إن نصوص القوانين والمحاكم الأوروبية تؤكد لنا أن إهانة أي دين يعارض الحق في ممارسة الشعائر بحرية وحرية الاعتناق.
في دول بعينها مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا تنص القوانين على معاقبة غير المعترفين بالهولوكوست، وفي حين تمنع الكثير من الدول في العالم بث فيديوهات تحرض على العنف، ودول أخرى تمنع الصراخ وادعاء أن هناك حريقًا أثناء التواجد في السينما، كل هذه أمثلة من القوانين الأوروبية تدل على تقييد حرية التعبير أو الرأي عندما يصل الأمر إلى إيذاء مشاعر الآخرين، لذلك لم تكن حادثة شارلي إيبدو أو حادثة الرسوم الدنماركية المسيئة مثالًا نظيفًا لحرية التعبير، بل حملت في طياتها أدلة واضحة على معاداة الإسلام.
حدود حرية التعبير الغربية
العالم الإسلامي يدرك بكل تأكيد حدود حرية التعبير الغربية، والآن هم يتساءلون: كيف يمكن أن يصبح تشويه النبي محمد وهو الشخص الأكثر قداسة وحبًّا بالنسبة للمسلمين ضمن حدود حرية التعبير وحرية الصحافة، وأن يصبح قبول هذا الأمر هو مقياس التحضر، في حين تتوقف حرية التعبير أمام ما يهتم به الأوروبيون والغربيون مثل الهولوكوست، حيث يعتبر عدم الاعتراف به جريمة والتحدث فيه لا يعتبر من ضمن حرية التعبير.
ليس فقط المسلمون المتطرفون وفق الوصف الغربي هم من يؤمنون أن هناك حربًا متعمدة ضد دينهم، حيث بعد واقعة الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي التي نشرتها إحدى الصحف، دخل الكثير من علماء الدين المسلمين والقادة العرب في حوار جاد مع نظرائهم في الغرب حول حدود حرية التعبير، في محاولة لنقل الصورة التي يراها المسلمون وفقًا للشريعة الإسلامية.
وفي أعقاب حادثة شارلي إيبدو في فرنسا وما تبعها من عنف أدى إلى مقتل ثمانية من العاملين بالصحيفة، دعا وزير الخارجية الأردني ناصر جودة إلى منع نشر أية رسوم تسيء إلى الأديان والمعتقدات قائلًا: “ما يحدث الآن هو خلط بين حرية التعبير، وبين التشهير والسب؛ لذا يجب على المسؤولين في أوروبا منع التشهير والسب تحت مسمى حرية التعبير وإبداء الرأي”.
حرية التعبير في الإسلام
القرآن الكريم -الذي يمثل المرجع بالنسبة للمسلمين في أمور دينهم ودنياهم- يمنع حرية التعبير إذا كانت تؤدي لإيذاء الآخرين، حيث لا يقبل النقد إذا كان يتعلق بالعقيدة أو مهاجمة القرآن والسنة، وهذا جزء أصيل من الشريعة الإسلامية ومن تعاليم النبي محمد.
حرص علماء المسلمين خلال السنوات الماضية توضيح مفهوم حرية التعبير في الإسلام وفق الشريعة، إلى أن جاء أبريل من عام 2009 حين انعقد مجلس الفقه الإسلامي العالمي بدعوة من منظمة المؤتمر الإسلامي لتوضيح القيود الشرعية لحرية التعبير وحدودها بالنسبة للمسلمين وتشمل الآتي:
– يجب ألا تؤدي حرية التعبير إلى إحداث فتنة بين المسلمين.
– لا يمكن استخدام حرية التعبير في الهجوم على الدين ورموزه ومقدساته.
– يجب ألا يؤدي إبداء الرأي إلى إيقاف مصالح العامة والخاصة من الناس.
وتضمنت توصيات مجمع الفقه:
– ضمان حماية حرية التعبير بما يتفق مع الشريعة الإسلامية من خلال إصدار قوانين لحمايتها، وضمان وجود نظام قضائي عادل.
– صياغة وثيقة دولية بين الدول الإسلامية لحماية الشعائر الدينية والمقدسات من أي تعديات، أو النقد، أو التشويه تحت ستار الفن أو حرية التعبير أو أي عذر آخر.
وبالمثل أيضًا أصدرت مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية التي تصدر باللغة العربية مقالًا قارنت فيه الاختلاف بين حرية التعبير في الإسلام، والمجتمعات الغربية، شملت عدة نقاط أبرزها:
– في الإسلام الحرية تنبع من القرآن الكريم والسنة النبوية، بينما في المجتمعات الليبرالية الحرية تنبع من كونها حقًا طبيعيًّا للإنسان.
– في الإسلام التعبير وإبداء الرأي ينقسم إلى عدة أنواع وفق ما يبدي فيه الرأي، أي أن هناك درجات متفاوتة (بعض الموضوعات يكون فيها حرية التعبير واجب على الفرد، وبعضها مستحسن فيه إبداء الرأي والتعبير، وبضعها ممنوع مثل ما يتعلق بالأديان أو إهانة الآخرين)، أما في المجتمعات الليبرالية حرية التعبير هي حق، يمكن تغييره أو التفاوض بشأنه في بعض الحالات، وربما التخلي عنه وفق حرية الشخص.
– يوجد فروق في ما يمكن التعبير عنه نظرًا لوجود مقدسات في الإسلام يجب احترامها.
ومع تزايد أعداد المسلمين في أوروبا وانتشار العولمة والانفتاح الثقافي، ومع انتشار التكنولوجيا في عصرنا الحالي، فقد أصبح من الضروري على الأوروبيين غير المسلمين فهم عادات وتقاليد هذا العدد الغفير من المسلمين، وفهم كيف يفكرون ويتصرفون كشرط أساسي للتعايش معهم. حيث أصبح أمرًا واقعًا لهذه الأعداد من المسلمين أن تندمج في المجتمعات الغربية، بل وتصبح جزءًا أساسيًّا من نسيجها، بل والاعتراف أيضًا بحقهم في الدفاع عن معتقداتهم وآرائهم وقيمهم، خاصة وأنهم لا يملكون ظهيرًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا قويًّا في البلاد الأوروبية، فتكون طريقة دفاعهم عن معتقداتهم كارثية ولا يحمد عقباها كما رأينا في الآونة الأخيرة في أكثر من حادثة عنف بهدف الدفاع عن معتقدهم وشعائرهم الدينية.
نسبية مفهوم حرية التعبير
يجدر بنا أيضًا الإشارة إلى أن مفهوم حرية التعبير يختلف من شخص لآخر، حيث يميل البعض إلى وضع بعض القيود على حرية الرأي من أجل التعايش السلمي مع المختلفين معه في نفس المجتمع، بينما يؤمن آخرون أن حرية التعبير لا حدود لها، حتى وإن وصل الأمر للهجوم على أصحاب الآراء الآخرين. وبناءً على وجهتي النظر السابقتين يمكننا بالطبع استنتاج أن المسلمين يميلون إلى وجهة النظر الأولى، في حين أن الغربيين يتبنون وجهة النظر الثانية.
نجد أيضًا أن بعض الديموقراطيات تميل إلى الرأي الأول بنسبة ما، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وإنجلترا، ويوضح ذلك رفض هذه الدول – التي تشترك جميعًا في نطقها للغة الإنجليزية كلغة أولى- التام لإعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول التي نشرتها الصحيفة الدنماركية في عام 2005، في حين تصدرت هذه الرسوم الصفحات الأولى لعدة صحف في دول أوروبية أغلبها يعاني فيها المسلمون من الاضطهاد وسوء المعاملة كمهاجرين أو مواطنين لهذه الدول، في الحين الذي رفضت فيه أيضًا صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إعادة نشر الرسوم المسيئة التي نشرتها شارلي إيبدو الفرنسية.
في كثير من الأحيان تضطر الحكومات ووسائل الإعلام لوضع بعض الحدود على حرية التعبير لأسباب قد يبدو بعضها بعيد المدى، مثل الحفاظ على النظام العام والحفاظ على الأمن العام أيضًا. كل هذه الأمور والتوازنات جعلت من الضروري وضع بعض الشروط لحرية التعبير للموازنة بين الحق القانوني للتعبير، والآثار الأخلاقية والمجتمعية المترتبة على هذا الأمر.
استمر ذلك الصراع في آخر عقدين من الزمان بين المسلمين والغربيين: يصر المسلمون على حقهم في عدم إهانة رموزهم ومقدساتهم باسم حرية التعبير، في حين يرى الغربيون أن حرية التعبير عن الرأي حق مكفول لا يجوز تقييده بأية قيود، ازدياد حجم المشكلة نشأ من تزايد أعداد المسلمين في المجتمعات الغربية، بالإضافة إلى الحروب التي بدأتها الحكومات الغربية في بلاد المسلمين، وكنتيجة لذلك ازاد التعصب بين الطرفين؛ مما يفرض على صناع القرار في الدول الغربية فهم ما يريده المواطنون المسلمون الذين يعيشون على أراضيهم.
—
* المصدر: ساسة بوست، والمقال مترجم في الأصل عنFreedom of Speech with Islamic Characteristics .