– مدرسة ربانية تعمل على تشكيل قيم التكوين في جوانب ضرورية من حياة الإنسان
– دورة سنوية مفروضة على كل مسلم ومسلمة بشرائط معروفة في كتب الفقه
– شهر التغيير الذي يصنع الأرض الصالحة التي تستنبت فيها كل مفاهيم التجديد
– بناء الإنسان يحتاج إلى بناء العقيدة والإيمان والعقل والفكر والعقيدة والروح وقوة البدن
– الفرد يتخرج في رمضان قوي الإيمان واثقاً بالله صلب الإرادة زكي النفس متين الخلق
– فيه تبرز حقيقة الجسد الواحد من خلال التفاعل مع الهم الإسلامي العام تحقيقاً لوحدة الأمة
– المسلمون اليوم أشد ما يكونون حاجة إلى معنى الجندية وفي المقدمة العاملون لدين الله
عاشت كثير من الحضارات المادية، أو الفلسفية، في عالم البؤس، بسبب ابتعادها عن تعاليم السماء، وجنوحها نحو المادة أو التفسير المادي للحياة، أو إغراقها في عالم السفسطة، وجدليات فكرية، وتركت وراء ظهرها عالم القيم والروح والأخلاق، ومن يفعل ذلك يكون – ربما – قد بنى شيئاً، وهدم أشياء لا تعد ولا تحصى، وهنا يكون مكمن الزيغ، ويحل الويل، ويعم الشقاء، وتكون نتائج هذا العور الفظيع وخيمة لا تقف عند حد، حيث تتهاوى من كل جوانبها، وتسقط كل جدران حياتها، وكانت النتيجة المرة، والحصاد المؤسف، بأن كتب لها الشقاء الفردي، والضياع الجماعي، والانحطاط الذي لا يعرف النهاية، إلا عند تصحيح المسار، وذلك عبر مراجعات تقود نحو توبة شاملة؛ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) (طه:124).
بناء الإنسان يحتاج إلى جملة من العوامل، لا تتم إلا إذا أخذنا بمجموعة من الأسباب، وما الدراسات التي تعرف بالإنسانية إلا واحدة من هذه الوسائط، وهناك سبل أخرى لا بد من اعتمادها، لتكون الحضارة المتكاملة التي من فسحتها تشرق شمس السعادة، ومن شرفتها تمتد أروقة الفضيلة، وتبنى منابر الفلاح، وتضمحل معالم الشرود، ويأخذ الإنسان نصيبه الصالح، الذي به تكون الحياة مزهرة بكل خير، وهنا نودع عالماً لندخل في آخر، نرى الإنسانية بأمس الحاجة إليه، بل لا يمكن للبشرية أن تخرج من وهدتها إلا به؛ (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28}) (الرعد).
البناء الشامل للإنسان:
من منطلق ما ذكرنا، تتبلور حقيقة مهمة في مجال ما نبحث تتلخص في أن بناء الإنسان لا يجوز أن يقتصر على جانب دون آخر، فتتجلى الثقافة العوراء، والحضارة العرجاء، والمجتمعات الكسيحة، بل يجب أن يكون شاملاً لجوانب حاجة الإنسان في المناحي كافة.
فبناء الإنسان يحتاج إلى بناء العقيدة والإيمان، والعقل والفكر، والعقيدة والروح، وقوة البدن والصحة العامة، والنفس والإرادة، والقيم والسلوك، والنظافة التي تشمل كل مفردات ما يمس هذا الباب المهم في حياة الإنسان، كما يحتاج إلى العلم، بل هو لازم من لوازم تكامله، في كل تخصص؛ مما يدخلنا في عالم فروض الكفاية، وكذا ما يترتب على العلم في عالم الفروض العينية.
رمضان.. مدرسة من مدارس البناء:
من هنا يأتي دور رمضان وأثره العظيم في بناء الإنسان، إذ إن رمضان هذه المدرسة الربانية، التي تعمل على تشكيل قيم التكوين في جوانب ضرورية من حياة الإنسان، ورمضان مدرسة نتعلم فيها كثيراً من ركائز الوجود الحضاري، وشهود التصميم في إنتاج الفرد والأسرة والمجتمع، كل ذلك من خلال تعاليم الرشد التي يلقي رمضان بظلالها عليهم، ليتكون المشهد بصورة مذهلة، قوامها الإنسان الصالح، التقي الناجح، والمجتمع الفالح، والأمة التي تحقق المصالح؛ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185).
أو يمكن أن تقول عن رمضان: إنه دورة سنوية، مفروضة على كل مسلم ومسلمة، بشرائط معروفة في كتب الفقه، وقواعد معلومة، مع سنن وآداب، جماعها ما يعرف عند الفقهاء بأحكام الصيام، هذه الدورة المباركة التي يستعد لها المسلم، كي يفيد منها بجاهزية عالية، ليخرج بنتيجة التقوى التي هي عماد حضارة الإنسان، وقوام بنائه؛ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة)، فهنا ينادى على الدنيا بأن من تخرّج في مدرسة رمضان نموذج رفيع المستوى، ومن تخرج في دورة رمضان نال درجات السبق، في عالم تكوين الجيل الذي يرضى الله عنه، فالأجيال الربانية التي تنشأ في ظلال رمضان، وتتربى على تعاليمه، وتبنى على قيمه، لأنه تخرج فيها على قيم تمثل روعة التربية المتكاملة في هذا المحضن الحصين، والعش الحنون المصون.
رمضان.. والفرد المسلم:
يتخرج منها الفرد قوي الإيمان، عميق الثقة بالله مخلصاً له، متدرباً على معاني الالتزام، صلب الإرادة، زكي النفس، متين الخلق، منضبط السلوك، عفّ اللسان، صحيح البدن؛ ففوائد الصيام الصحية كثيرة ومتعددة؛ منها قوي الجسد، كريم اليد، طاهر السريرة، مجاهداً، ففي رمضان – بشهادة التاريخ – كان هناك كثير من الانتصارات، وتحقق كثير من الفتوحات، وفي مدرسة رمضان يتخرج المرء متوازناً بعيداً عن الغلو (التطرف) ومقدماته ونتائجه، كريماً جواداً سخياً، محباً للخير، بعيداً عن الشر، جافياً عن الأذى، متخلصاً من العادات السيئة، والأعراف القبيحة، مستفيداً من وقته، لا يفرط بدقيقة منه – خصوصاً في رمضان – دون فائدة، فالوقت هو الحياة، وكذا يتخرج المرء في مدرسة رمضان قوالاً للحق، لا يعرف الزور، ويدفع عنه كل مفرداته، من مفهومه الأولي المعلوم، إلى كل مقاطعه الأصلية في عالم السياسة الشرعية، ويكون ذاكراً لله، صواماً، قواماً، محتسباً ذلك لله تعالى، ضابطاً لشهواته، مهذباً لنفسه، متميزاً بحسه الجمالي، وذائقته المتفردة، كثير اللجوء إلى الله، داعياً له، وطالباً منه، منظماً في شؤونه، نافعاً لغيره، محباً للعلم، وفي مقدمة ذلك قراءة القرآن الكريم، ومدارسته.
ففي الصحيحين عن فاطمة رضي الله عنها وصلى الله وسلم على أبيها قالت: «أسرَّ إليَّ – تعني أن أباها حدّثها سراً فقال لها – إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب»، ففي هذا الحديث أن المعارضة كانت تتم مرة واحدة في السنة، وفي آخر حياته عارضه به مرتين، وفي حديث آخر أن ذلك كان في رمضان وفي كل ليلة منه، ففي مسند أحمد عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، يلقاه كل ليلة يدارسه القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود من الريح المرسلة».
حقاً إن رمضان شهر التغيير الذي يصنع الأرض الصالحة التي تستنبت فيها كل مفاهيم التجديد والتغيير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب – الخصام والصياح – فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم – الرائحة – أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
مدرسة رمضان والمجتمع:
كما تبني لنا مدرسة رمضان المجتمع المتحاب، المتآثر، المتآخي، المتراص، المتكاتف، المتعاضد، المتساند، الصابر، المحتسب، النشط، الإيجابي، البعيد عن الخمول والكسل، المتعاون، المجاهد، الذي يقدم المصلحة العامة على الخاصة، والذي يحب العمل عامة، والعمل الجماعي خاصة، وينظم شؤونه على أساس هذه الحقيقة، فيكون من ذلك التكافل الاجتماعي، الذي صنع لنا المجتمعات الفاضلة بحق، وقدم لنا النماذج التالدة، والأجيال الفاضلة.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئاً»، وهذا ملمح من ملامح الخير، وأفق من آفاق العطاء، والمجال فسيح إذ شعبه يمكن أن تملأ كل فراغات الحراك الاجتماعي، من خلال خطة عمل، وبرنامج أداء.
دورة رمضان وإخراج الأمة:
كما ينتج لنا شهر رمضان الأمة بمفهوم الإخراج الحضاري المتميز، الذي يعمل على وحدتها، وبناء تلاحمها، ورص صفوفها، فأمة تصوم في وقت واحد، وتفطر في زمن واحد – والتفاوت اليسير لا يخل بهذه الحقيقة – هي أمة الوحدة، والوحدة قوة، ويا لها من قوة، في هذا الشهر تبرز حقيقة الجسد الواحد، من خلال الشعور في الهم الإسلامي العام، تحقيقاً لوحدة هذه الأمة.
قال الله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52}) (المؤمنون).
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى» (رواه مسلم).
وفي هذا ضرورة التحابب بين المسلمين، والتآلف فيما بينهم، فهو باب من أبواب القربى إلى الله، وهو سبيل من سبل تعضيد مفاهيم الحب والسلام بين المسلمين، والتراحم صفة الأمة، وخلقها النبيل، ومن لا يَرحم لا يُرحم، ومن رحم أهل الأرض رحمه من في السماء، كما أن التضامن بين المسلمين من الواجبات الشرعية، خصوصاً مع هذه المآسي التي تمر بالأمة في بورما وفي سورية وفي العراق واليمن، وغيرها من بلاد المسلمين، وهذا يعمل على بناء الإنسان الصالح الذي لا يعيش لنفسه، أو ينكفئ على ذاته، في عوالم الأنا وحب الذات، هذه النزعة القاتلة، التي يجب أن يتخلى عنها الفرد، وينعكس هذا التخلي بالفضائل المعاكسة على مستوى المجتمع والأمة.
مقومات النجاح في مدرسة رمضان:
وجعل الله له كل مقومات النجاح متاحة، وما على الإنسان فردياً وجماعياً إلا أن ينغمس في فصول هذه المدرسة، ويغوص في مقررات هذه الدورة المركزة، ليخرج منها بتلك الفوائد العميمة، والثمار المباركة، والنتائج الفاضلة.
عَن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ» (رواه البخاري).
ومعنى «سلسلت الشياطين»: قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقي السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر.
ويكفي أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، التي من حصلها واستثمرها في بناء الروح، وقوة الصلة بالله تعالى، ذكراً ودعاء وعبادة وقياماً وغيرها من وجوه الخير، نال جائزتها، وحاز رتب السبق فيها.
رمضان.. ومعاني الجندية:
المسلم من استسلم لله تعالى، وتحقق بمعنى العبودية له – سبحانه وتعالى – وفي إطار الالتزام بهذه الحقيقة، يتكون المرء الرباني، الذي حقق خاصية الجندية لله تعالى، اليوم يكف عن المباح من طعام وشراب ونكاح، من طلوع الفجر إلى غياب الشمس، وفي أول شوال، يفطر وجوباً في نفس الوقت، هناك أمسك، وهنا أفطر تحقيقاً لهذا المعنى العظيم الذي أشرنا إليه.
والمسلمون اليوم، أشد ما يكونون حاجة إلى معنى الجندية هذا، وفي المقدمة منهم أولئك الذين أخذوا على عاتقهم تحمل أعباء المشروع الإسلامي الفاضل، الذي ينضح بالسعادة والسمو، لغد مشرق ينعم به المسلمون، وبالطبع هذا جزء مهم في عالم بناء الإنسان فرداً وجماعة وأمة، فلما يكون عندنا الجيل الذي يتحقق بمعنى الجندية، حينها أبشر بالنصر، ووقتها يكون قوام أعمدة الخير، وقد نصبت خيام ظهورها، وحان زمن بروزها.
فما أحوجنا – من خلال مدرسة رمضان – إلى جند الله، إيماناً وصدقاً وإخلاصاً، وثقافة وخلقاً، ونشاطاً وحركة، وجهاداً ومجاهدة، وتضحية وصبراً، وتخطيطاً وعملاً، ووعياً وفهماً، ومعرفة بواجب الوقت، وفرض الساعة، مع استثمار الوسائل الحديثة، والأدوات المعاصرة، جند لله، يضبطون هواهم حتى يكون تبعاً لما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تتكون ركيزة من ركائز البناء، وعمود من أعمدته.